كم في الأحداث الكبرى التي تعصف بمنطقتنا العربية وتتفرد بها عن سائر مناطق العالم من مفارقات سياسية وتاريخية مدهشة، فمنطقتنا تكاد تكون المنطقة الوحيدة من مناطق العالم التي تختزن أكبر احتياطي بترول في العالم، وهي المنطقة التي تتفرد بكونها أكثر مناطق العالم أهمية من حيث الموقع الاستراتيجي، وهي الى ذلك مهد الديانات السماوية الثلاث، وهي من أكثر مناطق العالم في الموارد والثروات الطبيعية، بل الموارد البشرية رغم بطء وضعف تطورها الحضاري والصناعي.
كل ذلك يجعل عالمنا العربي محط أنظار العالم والقوى الكبرى المتصارعة والمتنافسة على كسب مناطق النفوذ فيه، ولكل هذه الأسباب مجتمعة تكاد تكون المنطقة الوحيدة التي لم تنعم بالهدوء والاستقرار منذ فترة تمتد نحو قرن ونصف القرن على الأقل جرت خلالها وعلى أرضها نزاعات وحروب كثيرة أبرزها حربان عالميتان كبريان، دع عنك الحروب الإقليمية والأهلية العديدة وجرى خلالها أيضا تقسيم مناطق النفوذ بين القوى الاستعمارية، كما جرى خلال هذه الفترة ذاتها إقامة أكثر من نظام عالمي جديد غداة الحربين العالميتين الأولى والثانية، ثم غداة انهيار الاتحاد السوفييتي، كما جرى خلال هذه الفترة تصفية الاستعمار في كل مناطق العالم، إلا منطقتنا حيث مازال الاحتــلال الإســـرائيلي يجثــم على فلسـطين وبعض الأراضي الأخرى في سوريا ولبنان، مشكلا بذلك بؤرة ارهاب دائمة ومصدرا لزعزعة الاستقرار والأمن والسلم في المنطقة والعالم بفعل السياسات والممارسات العدوانية القمعية والعنصرية التوسعية المتواصلة والتي تمارسها إسرائيل تجاه الشعب الفلسطيني والشعوب العربية كافة.
وبالتالي فهي بسبب زرعها عنوة في المنطقة واعتراف المجتمع الدولي بها واطلاق الحرية الكاملة لها، بلا قيود وبلا عقوبة، لتمارس هوايتها كما تشاء في الاعتداءات الوحشية والقمعية محبطة بذلك كل مشاريع التسوية، مهما قدم الفلسطينيون والعرب من تنازلات، تعد أحد الكوابح الرئيسية في عرقلة نمو وتطور الوعي الديمقراطي للشعوب العربية وقواها السياسية، ليس بسبب هيمنة هذه القضية بصفة مستدامة على عواطفهم وتفكيرهم فحسب، بل ولاستفادة الأنظمة الشمولية والدكتاتورية العربية من هذه القضية القومية والدينية المقدسة التي تحتل مكانة وجدانية أثيرة عميقة في سويداء قلوبهم لتبرير تأجيل وتسويف الاستحقاقات الديمقراطية لشعوبها وغيرها من استحقاقات حقوق الإنسان الأخرى المختلفة بحجة أن القوى الكبرى الغربية التي تقوم بالتشهير بها في هذه القضايا هي نفسها القوى الاستعمارية المساندة والداعمة “للعدو الصهيوني” عدو العرب المشترك. وما تركيز هذه القوى الكبرى عليها وتشهيرها بها في هذه القضايا إلا خدمة تسديها للعدو الإسرائيلي، طالما ان هذه القوى الاستعمارية الكبرى ذاتها تغض الطرف عن جرائم ذلك العدو الصهيوني بحق الفلسطينيين والعرب.
وهنا يمكننا بالضبط فهم الدور الملتبس الذي يخلقه وجود إسرائيل في المنطقة ككابح ومعرقل للنضج والتطور الديمقراطي، وذلك في ظل استمرارها في تلك السياسات والممارسات الجرائمية منذ 60 عاما، وغض المجتمع الدولي والدول الكبرى عن تلك الجرائم، ومن ثم استغلال الأنظمة الاستبدادية والشمولية العربية على اختلاف أنظمتها ذلك “الغض” للدفاع عن نفسها أمام شعوبها كضحية مستهدفة من الغرب الاستعماري، مستغلة في ذلك عواطف شعوبها الجياشة مع القضية الفلسطينية ومشاعر كراهيتها ونقمتها على الدول الكبرى الغربية المساندة لإسرائيل. وكثيرا ما تنجح تلك الأنظمة الشمولية العربية في هذا السلاح لجذب شعوبها معها في رفض التشهير الذي تقوم به تلك الدول الكبرى ازاءها بشأن انتهاكاتها لحقوق الإنسان، أو على الأقل كسب صمتها أو تحييد موقفها إزاء ذلك التشهير، سواء الذي تقوم به ذات تلك الدول الكبرى، أو حتى المنظمات الدولية العريقة النزيهة المعنية بقضايا حقوق الإنسان ونشر الديمقراطية في العالم.
وأنت لو فتشت معي في كل بلدان العالم غير العربية التي تحكمها أنظمة استبدادية أو دكتاتورية فلن تجد في يدها هذه العصا السحرية التي تتمتع بها الأنظمة الشمولية العربية في الدفاع عن نفسها لتبرير سجلاتها السوداء في انتهاكات حقوق الإنسان، تارة بحجة كون الدول الكبرى التي تمارس التشهير والضغوط تجاهها هي ذاتها الدول المساندة للعدو الصهيوني الذي تغض النظر عن جرائمه، لا بل تمده بأدوات الجرائم ممثلة في أسلحة الإبادة الحديثة الفتاكة وطورا ثانيا بتوظيف السلاح الديني الحساس عبر التلاعب بعواطف هذه الشعوب المعروفة بشدة تدينها وتمسكها بمعتقداتها وتقاليدها الدينية، وطورا ثالثا بحجة رفض التدخل الخارجي والمس بسيادة الدول الداخلية.
وما العاصفة التي تمر بها قضية إصدار المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية مذكرة بتوقيف وملاحقة الرئيس السوداني عمر البشير بتهمة ارتكاب جرائم حرب في دارفور سوى واحد من الأحداث التي تأتي على خلفية كل تلك الظروف الموضوعية والذاتية المعقدة المتقدم ذكرها، وهو الحكم الذي ليس يصعب على المحكمة الدولية المذكورة تنفيذه فحسب، بل يضيف إلى الشعب السوداني المزيد من المآسي والمعاناة والآلام طالما النظام الحاكم في الخرطوم هو من القوة والبأس العسكري والأمني الكافيين بما يتيح له ليس حماية رئيسه وتحصينه من الملاحقة الدولية، بل بما سيفضي إليه قرار المحكمة، بغض النظر عن مشروعيته، من تفاقم وتعقيد مجمل المشكلات والقضايا الداخلية الكبرى المأزومة أصلاً، وعلى الأخص قضيتا دارفور والجنوب، ناهيك عن التعقيد والتأزم المتوقع لعلاقة النظام بقوى المعارضة كافة.
فهل المطلوب إصدار الحكم بغرض التشهير فقط برأس النظام في حد ذاته وكفى الله المؤمنين شر القتال؟ أم المطلوب من المحكمة إصدار الحكم وإقامة العدالة الحقيقية التي تمنح مساعدة شعب فهل حكم المحكمة يتيح الاقتصاص وإقامة العدالة الحقيقية في آن واحد لجميع فئات الشعب السوداني؟ وهل المحكمة الدولية قادرة حقاً على أداء المهمتين في آن واحد وبعيداً عن تعريض الشعب السوداني للمزيد من الآلام .
وإذا كانت هذه المهمات القضائية الإشكالية الصعبة ليس بمقدور المحكمة الاضطلاع بها وتنفيذها.. فلماذا أصدرت حكمها اذن؟ ولماذا وقع الاختيار على “البشير” أولا؟
وأخيراً هل يعني كل ذلك ان لا جدوى اصلا من محكمة الجنايات الدولية وينبغي الغاؤها؟
صحيفة اخبار الخليج
11 مارس 2009