بطبيعة الحال كانت التغييرات السياسية أفضل من الجمود ومن عدم اتخاذ خطوات نحو الديمقراطية، لكن كانت هذه الخطوات في ظل الأشكال التقليدية الدينية فأدت إلى تزايد الانقسام الطائفي وحدوث الاضطرابات المستمرة وتفاقم حضور العمالة الأجنبية وعدم حصول تغييرات كبيرة لصالح الأغلبية الشعبية العاملة البحرينية.
ولكن ومهما كانت المحدودية فإن البناء السياسي الراهن أفضل من الانزلاق نحو خطوات مجهولة، وتعميق الوضع السياسي المذهبي – الطائفي نفسه، وإيجاد مواجهات أكبر.
ومع وجود النظام الدكتاتوري الإيراني التوسعي، وهيمنة نفوذه على أجزاء من العراق وعدم نهوض القوى الوطنية المتلاحم في القطر الشقيق، فإن الوضع يبقى محفوفاً بالمخاطر في السير نحو المزيد من التجريبية السياسية المجهولة الخطى والنتائج.
وخلال السنوات التجريبية في التغييرات السياسية لم تـُظهر القوى المذهبية أي بوادر لإصلاح أوضاعها ونقد تاريخها وتبعيتها للمنظورات السياسية الخارجية، وهي تريد من التغييرات الدستورية المزيد من النمو والمواجهة داخل المعسكرات الطائفية نفسها، مما ينقل بلدنا إلى أزمة أعمق.
لم يقم رجال الدين بالانفصال عن هذه المعسكرات، بل اعتبروا أنفسهم أجزاء منها، وأيدوا فريقاً دون آخر وألبوا فريقاً ضد آخر، ولم يتجهوا للحياد والتخصص في تقوية الوحدة بين المسلمين فعمقوا الخلافات وقسموا الناس.
ولم تقم أغلبية الأجهزة الحكومية بدورها المطلوب بالاستجابة لطلبات البرلمان وإحداث التغييرات العميقة في حياة الأغلبية التي تواجه شتى أشكال الفقر والبطالة والمزاحمة الرهيبة الأجنبية وأزمة الاسكان والغلاء والعلاج.
كما لم تكون قوى المعارضة الدينية والموالاة التي وصلت إلى البرلمان أية أرضية وطنية توحيدية، وكأنها معبرة عن الانقسام الطائفي فقط، وليست أداة التوحيد السياسية المنتظرة وأداة التصدي للمشكلات العميقة في المجتمع، ويقوي ذلك عدم خبرتها السياسية، ورفضها التعاون مع الخبرات الوطنية الكثيفة في البلد، وقد استغلت الأجهزة الحكومية كل ذلك لصالح الاحتفاظ بكل الأوراق في يدها.
ولهذا فإن إحداث أي قفزة في مثل هذا الوضع السياسي المتذبذب، يكون بمثابة قفزة في الهواء، وفتح الأبواب للمزيد من القلاقل.
لا بد أن يكون الإصلاح السياسي شاملاً، يضم القوى السياسية وأجهزة الحكم، عبر الانتقال لدولة علمانية ديمقراطية، ويكون ذلك بشكل متدرج، بتحول المؤسسات السياسية إلى تكوينات معبرة عن قوى اجتماعية وليس عن سنة وشيعة، أو عن مسلمين وغير مسلمين، وتغدو الدولة لكل المواطنين ومسئولة عن كل المقيمين بكل مذاهبهم وأديانهم.
وان تصلح المنظمات السياسية أوضاعها الشمولية الحالية وأفكارها الدينية العتيقة، وتنتقل للحداثة والعلمانية وتكف عن التعبير عن منطقة وقسم ديني من الوطن والناس.
وهذا كله يحتاج إلى زمن موضوعي، أي أنه لا بأس من دورة أو دورتين انتخابيتين لتقوم الدولة والمنظمات بتعديل أوضاعها، والتوجه لإحداث التغييرات الموجهة لمصلحة الغالبية من الشعب، وإذا حدث ذلك فعلاً فإنه ينعكس على طبيعة تكويناتها.
وتغدو التعديلات الدستورية وتغيير طابع الحكم ثمرة لتحولات عميقة في الأجهزة والجماعات السياسية والنقابية والاجتماعية المختلفة لا أن تكون انفلاتاً لا تعرف عواقبه.
أما أن تحصل تغييرات دستورية مع بقاء الاصطفافات والمعسكرات المتنابذة مذهبياً، خاصة في بلد بمثل هذه الرقعة وبمثل هذا التسارع في التغيير الاقتصادي من دون التغيير في حياة السكان، فإن ذلك كله يؤدي إلى صراع كبير بين السلطتين التنفيذية والبرلمانية، وإلى حل البرلمان، أو إلى الصدامات بين السلطتين التنفيذية والبرلمانية، وتقسيم السكان بشكل خطر، بحيث يتغلغل ذلك في المجتمع، وتنشل أجهزته وقواه السياسية، ويتوجه للمواجهات العنيفة الواسعة.
لا بد من مرحلة انتقالية تقبل فيها الدولة والجماعات السياسية الرئيسية بالتحول إلى النظام الديمقراطي العلماني، ويبرهن على ذلك من خلال الدورتين الانتخابيتين القادمتين، ولتتفكك العقد بخطوات منسقة بين هذه الأطراف.
لقد استوعب المجتمع كمية من التغييرات السياسية لم يهضمها بعد، ولم يحولها إلى غذاء مفيد، بل أدى إلى عسر هضم، وإلى تركيب ما هو حديث على ما هو تقليدي، فلا الجديد يستوعب ولا القديم بنافض ملابسه التي تعود لزمن آخر.
صحيفة اخبار الخليج
11 مارس 2009