في حديث شيق جرى مع صديقي وأستاذي د. عبدالله الصادق عن الأزمة الاقتصادية العالمية قال إن الواضح هو أن الرأسمالية كنظام اقتصادي باق، إلا أن نظامها المالي لم يعد قادرا على البقاء. وقد شجعني هذا الحديث على المضي أكثر في قراءة المزيد حول نظرية الأزمة الحالية تحديدا.
مضى نصف عام تقريبا والأزمة لاتزال في نمو مضطرد. لم تتضح نهاياتها بعد، إلا أنه أصبح ممكنا الحديث عن دروسها الأولى. وأول هذه الدروس أن الأزمة لم تعد مالية-اقتصادية فقط، بل وسياسية أيضا. كان أسطع دليل على ذلك انعقاد قمة العشرين في 15 نوفمبر/ تشرين الثاني 2008 الأشبه بكونسيليوم بشأن سرير الاقتصاد العالمي المريض. كان من الطبيعي توقع أن تبدأ الوثيقة الختامية بتتبع وتوصيف كيف بدأت الأزمة وما القوى المحركة لها وحجم أثرها. وتصف بعد ذلك الإجراءات التي يمكن أن تضعف تأثيرات الاتجاهات السلبية، وتقوي الاتجاهات المضادة لها، وفي النهاية، توضيح متى ولماذا ستنتهي الأزمة وما هي آثارها الفعلية لحد الآن. لكن كلما قالته الوثيقة هو إعادة التأكيد على بعض الإجراءات التي تم اتخاذها ووعود باستمرار المضي فيها من دون تبيان مدى فعاليتها. وقد أخفقت المحافل الدولية الأخرى في ذلك وفي رؤية البعد الزمني والكيفية التي ستنتهي إليها الأزمة. كان الحديث يدور عن نهايتها مع نهاية العام الجاري .2009
وفي مؤتمر منظمة بلدان أميركا اللاتينية الذي أعقب قمة العشرين فقد قيل بأن إقلاع الاقتصاد العالمي سيبدأ ليس قبل نهاية العام .2010 واليوم يتحدث كبار مسؤولي إدارة الرئيس الأميركي أوباما عن ثلاث سنوات مقبلة من الركود. أما آخر ما قاله رجل المال الأميركي الشهير بأن النظام المالي العالمي قد انهار بالفعل لكنه لا يعرف ما الحل. وهكذا يبدو أن تطور الحالة لا يشيع أي مزاج للتفاؤل، وأن قادة السياسة والاقتصاد العالمي يفتقدون لفهم كيف ولماذا وإلى أين تتطور الأزمة.
المسألة الأكثر تعقيدا (الدرس الثاني) هي أن النخبة المالية العالمية ليست معنية بالبحث عن حلول للمخرج من الأزمة. ونتائج دافوس في هذا الصدد ذات دلالات مهمة. الأدهى من ذلك أن من مصلحة النخبة خلق ظروفا إضافية تضيق إلى حد بعيد إمكانات البحث عن الحلول. والهدف هو الحفاظ بأي ثمن على النظام القائم بما يضمن لها سلطتها على العالم وتحكمها في النظام المالي والاقتصادي العالمي. وما أثار دهشة الكثيرين هو أنه في أكثر البلدان عداء تاريخيا لأفكار الاشتراكية أصبحت الحلول المطروحة تشكل عودة إلى الطرق الاشتراكية في إدارة الاقتصاد. هذه الحالة المدهشة ترتبط وثيقا بصياغة نظرية الأزمة الحالية. لكن هذه النظرية موجودة أصلا، ولأكثر من عقد من السنوات. وهي قد ‘’اختبرت’’ بما فيه الكفاية، بدليل أن كثيرا من تنبؤاتها تحقق بالفعل. ما لا يعجب النخبة العالمية المعاصرة في هذه النظرية هو أنها تؤدي إلى نتيجة مفادها أنه لم يعد ممكنا الحفاظ على النموذج الذي في إطاره نمت وازدهرت هذه النخبة (حتى وقت قريب). ولهذا فهم حتى لا يجهدون أنفسهم في مناقشة هذه النظرية.
وفي كل الأحوال فإن من المجدي إعادة التأكيد على الاستنتاج الرئيسي للنظرية. ولتوضيح ذلك نورد عرضا مقتضبا لشرح الاقتصادي والخبير الشهير في نظرية الأزمات ميخائل خازن على المثال التالي1: يجري دعم الطلب الحالي للاستهلاك المنزلي للأميركيين بشكل جدي، الأمر الذي يمكن ملاحظته على وتيرة نمو إجمالي ديونهم الذي وصل إلى 15 ترليون دولار وينمو بسرعة تقارب 10% سنويا. وباحتساب أن نمو إجمالي الناتج المحلي الأميركي يساوي الصفر تقريبا (العام 2008) فإنه يمكن تقدير صافي الدعم السنوي بـ 1.5 ترليون دولار. المعدل التاريخي للادخار في الولايات المتحدة الأميركية الذي كان عند نحو 10% سنويا، أصبح في العام 2008 (باستثناء الشهرين الأخيرين) يساوي قرابة الصفر. العادة أنه في ظروف الأزمات يقفز معدل الادخار إلى أكثر من متوسطه التاريخي، لكنه يمكن حتى تجاهل ذلك، غير أن نمو المدخرات حتى 10% كان سينقص 1.5 ترليون دولار من حجم الطلب الإجمالي. وبالتالي كنا سنجد أنه بنتيجة الأزمة يجب أن ينخفض إجمالي الطلب الخاص في الولايات المتحدة الأميركية بنحو 3 ترليون دولار. ويمكن حساب تأثير مثل هذا الانخفاض في الناتج الإجمالي المحلي بضربه في مضاعفات ,2.5 1.5 وعندما نأخذ بالتقديرات الدنيا لذلك سنجد أن الناتج الإجمالي المحلي الأميركي يجب أن ينخفض بما قيمته 4.5 ترليون دولار. وهذا ما يعادل بالضبط ثلث الناتج الإجمالي المحلي الأميركي في أفضل احتمالاته حاليا (14 ترليون دولار)، أو ما يعادل 40% في حالة التقدير المتشائم (12 ترليون دولار).
ويرى خازن أنه يمكن أيضا تقدير حجم المشطوبات من أصول المؤسسات المالية. فبما أن الشركات كانت قد أغرقت بالقروض حتى أقصى حد ممكن، فإنه يمكن تقدير خسائرها الرأسمالية بضربها بمضاعف أدناه 3 إلى 5 نسبة إلى عوائدها السنوية. فإذا كانت العوائد ستنخفض بمقدار 4.5 ترليون دولار فإن الشطب سينسحب على أصول تبلغ قيمتها 12 – 15 ترليون دولار. ويقصد بذلك، طبعا، الأصول الأولية، لا الأوراق الثانوية والمشتقات.2
ومع الأخذ في الاعتبار أن التقديرات أعلاه قد بنيت بالافتراضات الدنيا، فإن الأمور ستتخذ على الأرجح منحى أسوأ بكثير. وعليه يصبح مفهوما أن أزمة كهذه تجعل من غير الممكن الحفاظ على النظام الساري. وقد يكون ذلك مدعاة لأسى الكثيرين، إلا أنه لا يمكن ابتداع نظرية أكثر تفاؤلا. وكل ما ستحاول النخب فعله هو بذل الجهود لإنقاذ مؤسساتها الاقتصادية والمالية بدرجة أولى. وكل ما فعلته الإدارة الأميركية السابقة والحالية يؤكد ذلك. هذا يعني أن الأزمة ستظل فاعلة بكل عفويتها الذاتية، وأن أية إجراءات لن تسيطر على تلك العفوية. أما المخرج الحقيقي فسيكون ممكنا فقط بعدما تتضح نتائج الأزمة بوصولها إلى نهاياتها، وعندما يدب الوهن في أوصال النخبة العالمية الحالية.
الدرس الثاني المهم، هو أن المهمة الرئيسية للذين يهمهم ليس الحفاظ على ما تم الحصول عليه من ثروات (بطرق غير شرعية غالبا)، بل الحفاظ على ما حققته مجالات الأعمال الحقيقية، ستكمن في البحث عن مصادر المعلومات الموضوعية وفهم الأسباب والنتائج الفعلية للعمليات الجارية. أما بالنسبة لقادة الدول فإن مسألة مصير بلدانهم وشعوبهم تكمن في البحث عن الإجراءات والخطط التي تسمح بالخروج من الأزمة قبل انتهاء مرحلتها الدنيا. بناء النظام المالي الإقليمي الذاتي على قاعدة فهم النظرية الصحيحة للأزمة الحالية هو وحده الكفيل بقيادة نموذج التطور في القرن الحادي والعشرين.
[1]، [2] لمزيد من الاطلاع، يمكنكم مراجعة الوصلة: www.worldcrisis.ru، 12 فبراير/ شباط .2009
1 http://www.worldcrisis.ru/ , 12.02.2009
2 نفس المصدر
صحيفة الوقت
9 مارس 2009