تغيرت النسب بين الملكيتين العامة والخاصة وبدأت مؤسسات الملكية العامة الضمور، لكنها لاتزال تتمتع بثلثي الإنتاج، فيما تتوسع الملكيات الخاصة وتحتكر السوق في التجارة والتمويل.
الأحزاب (العامة) التي تعبر عن تلك الملكيات العامة، تتراوح بين أقصى اليسار حتى أقصى اليمين، لعبت اهداف التنمية كما تحرسهما القوى المتنفذة في كل مجتمع السياسة الاقتصادية الأساسية.
إن أهداف الدول الرأسمالية العامة الشرقية تتراوح بين تحقيق الاشتراكية والشيوعية إلى تحقيق النهضة القومية أو إعادة مجد الإسلام أو تحقيق التنمية المستدامة.
وهي كلها مصطلحاتٌ ايديولوجية تسقطها القوى الحاكمة على الواقع، ولكن عبر الهدفين (الاشتراكي والشيوعي) المعبأ بطاقة تغيير كبيرة للوصول إلى زوال الطبقات، تتحقق أكبر معدلات التنمية الصعبة وبناء الصناعة الثقيلة فوق تضحيات جسيمة من قوى الشغيلة.
إن الشعارات المرفوعة سوف تعبر عن تناقضات اجتماعية حادة مع تطور قوى الإنتاج، وفي المراحل الأولى لا تظهر هذه التناقضات، ومع تشكيل البنية الاساسية تبدأ التناقضات بالظهور.
إن الكلام عن البطل الاشتراكي المضحي يتناقص، لأن التباين بين الحاكمين البيروقراطيين والعسكريين الكبار وبين القاعدة الشعبية يتسع، ويشعر العاملون بأنهم يضحون من أجل رفاهية طبقة منفصلة عنهم، ويبدأون بالتشكيك في الايديولوجية المرفوعة، إن الجمهور غير مستعد لخوض حرب والدفاع عن المعسكر الاشتراكي، ومن هنا تغدو الحروب (قاطرة التاريخ) وهي العبارة التي قالها ماركس في وصف فعل الحروب (البناء)، وهي حقيقة مأساوية كذلك، ورفضها جورباتشوف وهو يقود البلد للانسحاب من تكلفات الحروب الباهظة، وليفكك رأسماليات عامة بيروقراطية تجاوزها الزمن.
كيف يغدو الاشتراكي ذا وجهين، اشتراكي ورأسمالي في ذات الوقت؟
إن المرحلة هي مرحلة رأسمالية شرقية، والقيادي إما أن ينضم للبيروقراطية وإما للجمهور العامل، لهذا فإن الوحدة الاشتراكية بين الحاكمين والمحكومين تنفصم، ويغدوان إما الجنرال الحاكم كما في بولندا وإما ليخ فاليسا، فأوربا الشرقية وروسيا جزآن من الشرق، من حيث التشكيلة، لا من حيث الجغرافيا، وفي الواقع العربي ينفصم القيادي المتمسك بالايديولوجيا القديمة عن الشغيلة، يتداخل بالقوى البيروقراطية الحاكمة إما على هيئة حزب قومي وإما على هيئة حزب(اشتراكي)، وتظهر لغة سياسية غائمة، مائعة، حتى تتضح الهويات الاجتماعية مع تطور قوى الإنتاج، وزيادة رقعة الملكية الخاصة على حساب العامة، واليساري البيروقراطي الذي كان يردد شعارات الاشتراكية يبدأ الانتقال للشعارات الرأسمالية، وهي في جوهرها الشرقي واحدة.
تبدأ القوى العاملة إدراك تميزها الطبقي عن فئات القوى البيروقراطية والثقافية المسيطرة على إنتاج السياسة، وتصبح إما متحجرة في خصوصيتها وإما مرنة ومستفيدة من التحولات الصاعقة فوق معيشتها وظروفها التي تـُطحنُ بين الرأسماليتين العامة والخاصة.
ولهذا فإن شعارات الحكومة الإسلامية والثورة تغدو في رأسمالية عامة أخرى منهوبة باسم الدين، منهكة من النقد الجماهيري المتصاعد، وتتركز الهجمات في الدين، وكل ايديولوجية سياسية شرقية تتحول إلى دين في الواقع، ولكن إذا كانت جماهير المعسكر الاشتراكي تعود للدين، فإن جمهور الدولة الإسلامية المتشددة ينسلخ من الدين، وفي برزخ الانتقال من نظام الرأسمالية الحكومية إلى الرأسمالية الخاصة، تحدث اضطراباتٌ جمة، يشعر قسمٌ من السكان متضرر من سقوط جوانب من الملكية العامة بالرغبة في البقاء في النظام القديم الذي وفر له مزايا مهمة في السيطرة على الأسعار وفي تحديد الأجور، لكن أقساماً أخرى مرتبطة بصعود الرأسمالية الخاصة تعمل لإزالة تلك الجوانب الممثلة للدولة (الأبوية) الراعية الخيالية لجميع أفراد الشعب.
إن انفصام هذه الأقسام في الرأسماليات الشرقية العامة، فهي نماذج عديدة، ذات تطورات تاريخية متباينة، يتم على أنحاء مختلفة، وعبر اضطرابات مذهلة.
وفيما تتوجه الطبقات العليا لاستثمار هذا التحول بسرعة نظراً لامتلاكها الأسواق والبنوك والإعلام وتبرر التحول لصالحها، فإن الطبقات العاملة تجد نفسها متأخرة، تنزل فوق رؤوسها الفواتير المتأخرة للدولة السابقة، من فساد ضار في الملكية العامة ومن نقل الأموال وغياب الأثمان الحقيقية للسلع الخ.. وكلما عملت هذه الطبقات العاملة على التمايز مع المالكين وحددت خريطة مصالحها الخاصة، وتنظمت نقابياً وسياسياً، تكيفت بقوة مع الطوفان القادم فوقها.
بعض الدول الكبرى الشرقية على حافة العبور بين نظامين تاريخيين متناقضين، والبعض الآخر يزحف نحو ذلك، وبعض ثالث خارج هذا التغيير.
إذا كان تخلي الدول الشرقية عن جوانب محدودة من ملكيات وسائل الإنتاج قد أحدث ذلك كله فكيف ستجري الأمور مع التخلي الكامل عن هذه الملكيات؟!
من المؤكد أن ذلك سيكون أشبه بزلزال وهذا أمر سيترافق ولا شك مع نضوب الموارد الطبيعية، وتسارع العولمة، ونمو الإنتاج الخاص. هنا تغدو مسألة الملكيات العامة الديمقراطية مثل خشبة النجاة، وهو أمر يستدعي منذ الآن تكاتف القوى العاملة في القطاعات الخاصة والعامة لإصلاح هذه الملكيات الوطنية المشتركة.
صحيفة اخبار الخليج
9 مارس 2009