الأزمة الاقتصادية العالمية التي خطفت الأضواء من كل القضايا التي كانت تحتل حتى وقت قريب صدارة اهتمام الأسرة الدولية مثل قضية التغيرات المناخية، والتي استنفرت كافة حكومات دول العالم وقادتها، بدأت أولاً كما نعلم في القطاع المالي والمصرفي قبل أن تنتقل إلى الاقتصاد الحقيقي وتؤدي إلى انهيار كبريات الشركات الصناعية في العالم وتدفعها لشن حملة تسريحات لمئات الآلاف من العاملين. وهذا يعني أن القطاع المصرفي والمالي سيبقى عرضة للمخاطر الناجمة عن حجم الخسائر المهولة التي تعرض لها، ويشمل ذلك الثقة والمصداقية اللتين فقدهما القطاع، واللتين تشكلان أساس العمليات المالية والمصرفية لوحدات القطاع، بين بعضها البعض وبينها وبين المستثمرين. هذا المناخ الاستثماري العالمي الغائم يطرح سؤالاً طبيعياً وهاماً هو: ما مصير مليارات الدولارات الحائرة التي لم تتآكل قيمتها بعد كما هو حال تريليونات الدولارات التي تبخرت فجأة من محافظ استثمارية مختلفة (ودائع مصرفية لم يعد لها وجود نتيجة إفلاس مديريها، كما في حالة بنك ليمان براذرز، وتوظيفات في صناديق استثمار، أو في أصول ثابتة (عقارية أساساً) أو أصول قابلة للتسييل السريع كالأسهم؟ ذلك أن تجميدها أو تعليق توظيفها استثمارياً، اعتباراً بمخاطر الأزمة التي لازال شبحها يخيم على كافة مفاصل الاقتصاد العالمي وأدواته، يعتبر في عداد الفرص الضائعة، أي الخسارة ترتيباً. ولذلك فإن فترة ‘انغلاق’ مديري المحافظ الاستثمارية من صناديق ومصارف وبيوتات مالية، على بعضها، وتحفظها المفرط في مسألة ‘الإفراج’ عن الأموال قيد التوظيف التي بحوزتها، لن تطول كثيراً. إذ سرعان ما ‘ستعود حليمة إلى عادتها القديمة’ بعد زوال مفعول فترة الترقب والانتظار، وبعد تبلور القناعة الجمعية لرواد السوق ‘بزوال الخطر’، حتى ولو بصورة غير كلية. وبما أن الأضرار التي ألحقتها الأزمة المالية والاقتصادية العالمية بالدول الأعضاء في منظومة الاقتصاد العالمي، ليست متساوية، وإنما تفاوتت من دولة إلى أخرى، فإن المستثمرين وأصحاب ومدراء المحافظ الاستثمارية هم الآن بصدد رصد وتقييم مختلف الأسواق والمراكز المالية العالمية التي يفوق تعدادها المائة والمنتشرة على مساحة شاسعة من الكرة الأرضية، لكي يختاروا من بينها الملاذات الاستثمارية الأكثر أماناً. ولعل أكثر المتحفزين لالتقاط الفرص الاستثمارية الشحيحة التي لازالت متوفرة في بعض أسواق ومراكز المال العالمية، لاسيما تلك الموجودة في الدول النامية ذات الاقتصادات الجيدة التي لم تتأثر بشدة بالأزمة، هي الصناديق الاستثمارية، لاسيما منها صناديق التحوط (Hedge Funds) التي مازالت تتوفر على محافظ استثمارية مليارية رغم الخسائر الفادحة التي تكبدتها إبان الأزمة. ولما كانت دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية والصين والهند وبعض الدول الجنوب شرق آسيوية من الدول القلائل في العالم التي لازالت تحتفظ باحتياطيات نقدية وفوائض مالية ضخمة رغم تقلصها بشكل كبير نتيجة تحويل جزء منها لدعم المصارف المحلية وتمويل مشاريع إعادة إنهاض لاقتصاداتها، فضلاً عن تبخر جزء منها في الانهيارات المالية للمؤسسات الحافظة والموظفة لها- فإنها تبقى الدول الأكثر ترشيحاً للهجوم القادم لصناديق التحوط. وكلنا يعلم ماذا فعلت صناديق التحوط قبل اندلاع الأزمة المالية الاقتصادية العالمية المركبة؟ وكيف أسهمت بصورة كبيرة في تخليق وانضاج الأزمة من خلال هجومها الكاسر على أسواق السلع المستقبلية (Future Commodity Markets)؟ لاسيما سلع النفط والمعادن غير النفيسة، وكيف أدى ذلك إلى ارتفاع حمى المضاربة على هذه السلع ورفع أسعارها إلى المستويات الشاهقة التي أحدثت أزمة غذائية عالمية نتيجة ارتفاع أكلاف الطاقة، قبل أن ينكشف مستور فقاعة أسواق العقار والأسهم وتنفجر في وجه صانعيها والنافخين في كيرها. والحال أنه بموازاة تحفز صناديق الاستثمار، لاسيما صناديق التحوط التي نالت الأزمة كثيراً من سمعتها، للتفتيش عن ‘صيد’ جديد في أسواق غير مرتادة وملائمة، مؤقتاً، لتحركاتها الاستثمارية على المدى القريب، ريثما تستعيد المراكز المالية الرئيسية الكبرى، عافيتها وديناميتها، هناك بالمقابل في المراكز المالية الطرفية متحفزون لاستقطاب هذه الصناديق بهدف تعزيز مكانة مراكزهم ورفع درجة تصنيفها بين مراكز المال العالمية. وهذا توجه مفهوم على أية حال في إطار المنافسة الدولية على استقطاب الرساميل لتنشيط الدورة وخلق فرص عمل جديدة. ولكن حذاري من الوقوع في شرك الطموح المفرط المعادل للوهم في نهاية المطاف. فليس كل ما يلمع ذهباً كما يقول المثل. وعلى المرء أن يتحوط من مثل هذه ‘الصناديق التحوطية’ وأضرابها. فلا ننس في لحظة ‘هيام استثماري’ غلاَّبة أن هذه الصناديق هي الأب الروحي للنقود الساخنة (Hot money) السابحة دون قيود عبر مختلف أسواق ومراكز المال العالمية لاصطياد أسهل وأسمن الفرص. والنقـود الساخـنة كما نعلـم هي نجمـة الاسـتثمارات غير المباشرة (Indirect Investment) بلا منازع. وهي بهذا المعنى لا تشكل أية إضافة نوعية للاقتصاد الحقيقي.
صحيفة الوطن
8 مارس 2009