ما من دولة عانت من تشويه سمعتها الاخلاقية والروحية والثقافية في تاريخنا الحديث كما عانت الدولة الروسية خلال الحقبة السوفييتية على امتداد نحو قرن منذ انتصار الثورة البلشفية الاشتراكية، وقيام الاتحاد السوفييتي عام 1917م حتى انهيار هذه الدولة الاتحادية في مطلع العقد الاخير من القرن العشرين، مع ان روسيا تحديداً ليست فقط لا تقارن البتة بالانحطاط الاخلاقي والروحي الذي اشتهرت به معظم البلدان الغربية الرأسمالية وعلى الاخص الكبرى منها، ناهيك عن عدد غير قليل من البلدان الشرقية في العالم الثالث، ومن ضمنها بلدان عربية واسلامية، لا بل ان روسيا نفسها هي واحدة من اعرق البلدان الاوروبية الشرقية حضارة في سمو ثقافتها وقيمها الاخلاقية والروحية والدينية المتغلغلة في ثقافات الناس وعاداتهم وتقاليدهم ومعتقداتهم الشعبية والدينية.
وهم كذلك أي الروس، اكثر الشعوب الاوروبية قرباً من ثقافات الشرق وعاداته المتصفة بالمحافظة باعتدال وسطي متوازن بين الجموح الغربي والتزمت الشرقي، ناهيك عما ينصهر ضمن نسيجهم الاجتماعي والوطني من مكونات اسلامية تؤثر وتتأثر بهذا القدر أو ذاك بالقيم المشتركة لهذا النسيج العريق.
وقد تضافرت جملة من العوامل المتداخلة والمتشابكة في خلق هذه الصورة التنميطية المبسطة لتشويه السمعة الروحية والاخلاقية لروسيا خلال العصر السوفييتي، منها شيوع المقولة المنقولة عن كارل ماركس، مؤسس النظرية الاشتراكية التي استرشد بها الحزب الشيوعي الحاكم السوفييتي إن “الدين افيون الشعوب” والمقتطعة ابتساراً من سياق نصها الاصلي، علاوة على ما شاب الممارسات التطبيقية في التجربة الاشتراكية السوفييتية من تطرف إلحادي، وعلى الاخص خلال العهد الستاليني، هذا بالرغم من ان برنامج الحزب الشيوعي لا يشترط ان يكون المنتسب إليه ملحداً.. كل تلك المظاهر والممارسات والدعاية المغرضة للدول الرأسمالية والاستعمارية عرفت كيف تستغلها وتوظفها جيداً في تشويه السمعة الاخلاقية والروحية لروسيا برمتها دولة وحزبا حاكما ومجتمعا على خلاف الواقع الفعلي الذي تعيشه روسيا.
وقد وجدت تلك الدعاية الغربية المغرضة ضالتها لتضخيم وزيادة هذه الصورة التنميطية المشوهة لسمعة روسيا الاخلاقية والروحية في العالم كله بوجه عام، وفي العالم العربي والاسلامي بوجه خاص، ما تمتاز به شعوب هذا العالم الاخير من تدين شديد ونفور من أي ايديولوجية او ثقافة موصومة بالكفر والالحاد. ولذلك لطالما ارتبط في اذهان معظم شرائح وفئات هذه الشعوب ان “الشيوعية” مرادفة تماماً للكفر والالحاد، وهذا على غير الحقيقة الموضوعية للمفهوم العلمي ودلالته السياسية في الفكر الشيوعي أو الايديولوجية الماركسية. هذا إذا ما اراد المرء حقا ان يستدل على هذا المصطلح من مصادره الاصلية.
كما ان الانظمة العالمثالثية والعربية الموالية للغرب هي الاخرى بدورها وظفت هذه الصورة التنميطية المشوهة لسمعة الاتحاد السوفييتي الروحية والاخلاقية لتضيف عليها من عندها عبر دعاياتها السياسية، سواء من خلال رجال الدين المضللين، ام من خلال رجال الدين المغرضين المسخرين لخدمة تلك الانظمة، المزيد من البهارات الخرافية والخيالية لتنفير عامة الناس بمختلف شرائحهم المتعلمة والنخبوية من الفكر الاشتراكي برمته ومن كل من القوى والاحزاب والافراد الذين يتبنونه في المجتمع وعلى الساحتين السياسية والثقافية.
والحال ما كان بمقدور الحزب الشيوعي السوفييتي لو اراد، ولا الدولة السوفييتية، تلحيد شعوب الاتحاد السوفييتي، او على الادق تجريدهم من قيمهم الاخلاقية والدينية وزجهم في اتون الرذيلة والتفسخ الاخلاقي او التهتك الروحي. فمثل هذه المرامي تتناقض تناقضاً صارخاً مع السجية الفطرية التي جبلت عليها هذه الشعوب، كما تتضارب مع ثقافتها الشعبية الدينية والحضارية التاريخية المتوارثة والتي نهلت ونشأت عليها اجيالاً متعاقبة. وما كان كذلك بمقدور الحزب الشيوعي السوفييتي السابق، حتى مما شاب في عصره ولاسيما في العهد الستاليني من بعض المظاهر المعادية للدين والشمولية، سوى التكيف مع تلك السجية الفطرية لشعوبه المحافظة باعتدال ووسطية. لا بل لطالما اعتبر منظرو ومفكرو وفلاسفة الحزب الحاكم ان القيم الاخلاقية الانسانية الاصيلة هي جزء لا يتجزأ من الثقافة والمبادئ الاشتراكية التي ينبغي المحافظة عليها وتربية الانسان الاشتراكي الجديد عليها.
ولطالما ادانت وسائل الاعلام في الدول الاشتراكية السابقة، وعلى رأسها الاتحاد السوفييتي، مظاهر التفسخ الاخلاقي والروحي في الدول الرأسمالية الغربية، بما في ذلك في مجالات الفنون كالسينما والمسرح والفنون التشكيلية، وفي الاماكن السياحية والعامة فضلاً عن اسواق الدعارة المنتشرة في تلك البلدان، ناهيك عن مجلات الاثارة الجنسية وصحف التعري واستغلال جسد المرأة للدعاية التجارية. واعتبرت ان كل تلك المظاهر ما هي إلا افرازات ونتائج حقيقية لافلاس ثقافة وايديولوجية النظام الرأسمالي العالمي، وأزمته الاخلاقية والروحية. حتى ان بابا الفاتيكان الراحل يوحنا بولس الثاني، وبالرغم من دوره في تقويض المنظومة الاشتراكية السابقة وعلى الاخص في بولندا، اعترف بما يمتاز به الاتحاد السوفييتي السابق من ايجابيات في الحفاظ على جملة من القواسم المشتركة الاخلاقية مع المسيحية وذلك غداة انهيار الاتحاد السوفييتي.
وإذ كان من المستحيل على اي انسان منصف متجرد من الغرض والهوى زار موسكو في ظل الدولة السوفييتية ان يدعي بوجود اي مظهر من مظاهر التفسخ والانحلال الاخلاقيين والروحيين في روسيا طوال عصر تلك الدولة السوفييتية السابقة بطولها وعرضها، سواء في الشارع ام في الساحل، في السينما ام في سائر الفنون ووسائل الاعلام، ولا أي مظهر من مظاهر الدعارة والخلاعة والمجون التي شاعت ليست في الغرب فحسب بل وللأسف في عدد من العواصم العربية والشرقية في العالم الثالث، بما في ذلك اسواق الدعارة.. فكيف نفهم اذن تفشي وشيوع كل تلك المظاهر سريعاً في ظل النظام الجديد الحالي منذ سقوط الاتحاد السوفييتي قبل أقل من عقدين؟
صحيفة اخبار الخليج
3 مارس 2009