لم تتح لكارل ماركس فرصة تعرف رأس المال الشرقي، الذي تطور بعد وفاته، في أواخر القرن التاسع عشر، ولهذا لم تتم دراسة هذا الرأسمال التاريخي المغاير لرأس المال الغربي، فخلافاً للرأسمال الغربي القادم من الإنتاج الشخصي، بدءاً من الحرف فالمانيفاكتورة ثم الصناعة الآلية الخ، ظهر الرأسمالُ الشرقي بقوته الكبيرة من الحكومات أساساً. ولهذا كانت مرحلة الليبرالية العربية وامضة، محدودة التاريخ، لاعتمادها على الرأسمال التجاري أساساً، فجاءت مرحلة الرأسمالية الحكومية ورافقتها الأفكارُ القومية والبعثية والماركسية والآن الطائفية. لتطور أشكال الملكية العامة والخاصة في وسائل الإنتاج وفي نسبهما المتعددة، علاقاتٌ موضوعية، تعتمدُ على تطور هذه الوسائل. إن تقلصَ الأفكارِ الليبراليةِ يرجعُ لتقلص الملكيات الخاصة لوسائل الإنتاج، والتوزيع، والتمويل، ولهذا رأيناها في المرحلة الحكومية الرأسمالية تذبل، وسواء كان ذلك في روسيا السوفيتية أو الصين الشيوعية أو مصر الناصرية وغيرها من الدول، فالدولُ الشرقية لها قوانينٌ عامة مشتركة. كما أن الأفكار (الاشتراكية) مرتبطة بنمو الملكية الرأسمالية العامة، وهي تذبلُ كذلك مع تقلص هذه الملكية وتوسع الملكية الخاصة. لن تنتهي الملكية العامة الرأسمالية الكبيرة الحكومية في الشرق إلا بحدوث ثورة كبيرة في قوى الإنتاج، فهذه الدول تسيطر على منابع الثروة كالبترول والغاز والمناجم الكبرى، باسم الشعوب الغافلة، وحتى في عهد الاصلاحات الرأسمالية الخاصة الحكومية في روسيا والصين وبقية دول الشرق التي تقاطرت على هذه العملية واحدة بعد أخرى، فإن الدولَ لم تتركْ هذه الملكية التي تصنع قوى الرأسماليين البيروقراطيين الحكوميين الذين يخرجون من هذه المطابخ الكبرى كقططٍ سمان. ويجري ذلك إما بالتخلص من قطاعات خاسرة، وتحميل الشعوب فاتورة الفساد، وإما عبر المشاركة مع الرساميل الخاصة الوطنية والأجنبية في أرباح مؤسسات قوية، لكن لا يجري ترك الدجاجة التي تبيض ذهباً: قطاعات إنتاج المواد الخام الثمينة. وهذا على مستوى الأفكار يؤدي لشحوب أفكار الوطنية والقومية والاشتراكية. وفي الدول الطائفية السنية والشيعية فإن المذهبية المحافظة تبقى حجر الزاوية في النظام الايديولوجي، معبرة عن سياقات خاصة لدول أكثر ترسباً في النظام الإقطاعي. وفي الوقت الذي تصعدُ فيه القوى البيروقراطية على جثة المجتمع القديم، فإنها لا تستطيع أن تكون ليبرالية ديمقراطية حقيقية، فهي بسيطرتها على أغلبية المال العام وإنتاجه تخشى هذ الديمقراطية، تخشى هروب الدجاجة الذهبية من تحت قبضتها، فتغدو لها تحفظات على هذه الديمقراطية لكونها (لا تتناسب مع تقاليدنا العريقة)، أو بسبب الخشية من الفوضى وغيرها من التبريرات التحكمية. وتقوم بمزج هذه السلطة التحكمية بكم ما من الشعائر الديمقراطية، لكن التي تجعل حزب السلطة، سواء كان الحزب الشيوعي في الصين أو حزب روسيا بيتنا، أو الحزب الوطني الديمقراطي المصري، أو النخبة المتحكمة في موارد بلد، أو النخبة المتحكمة في موارد بلد آخر، أو أن يجري وضع خليط من النخب الطائفية المتعددة في بلد ثالث. ومهما كانت الصراعات والخلطات فإن النتيجة هي إنشاء طبقة مسيطرة على وسائل الإنتاج، تتوزعُ بينها مصادرُ الخيرات العامة، بعضها متنفذ في أغلبية الملكية العامة وبعضها متنفذ في الملكيات الخاصة وبينها تعاون وصراع يتحددان بطبيعة العلاقات بين الطرفين وبحجم السوق ومسائل أخرى كثيرة. هذه مرحلة رجراجة بين الرأسماليتين العامة البيروقراطية المنتهية ولايتها، وبين الرأسمالية الخاصة التي لم تعط الولاية ولم يحن سعدها الكامل. هذه المرحلة التي نعيشها الآن والتي تمثل حلقة من حلقات تطور الرأسماليات الشرقية منذ أن كانت جنيناً في رحم الامبراطوريات الإقطاعية فأنتجت لنا متجراً ومصنعاً صغيراً وبنكاً محلياً متواضعاً، حتى تفتت الامبراطوريات أو تحولت بشكلٍ آخر محافظة على السوق الهائل كالامبراطورية الروسية التي صارت امبراطورية سوفيتية، والامبراطورية الصينية التي صارت جمهورية الصين الشعبية، وهذا التحول فيهما أدى إلى إنجاز ثورة صناعية كبرى لم تصل بعد لمستوى الثورة الصناعية الغربية، لكن ضخامة السوق كانت معجلاً آخر، وفي حين لم تهدر الصين بضائعها على الجمل الثورية كثيراً استنزفت روسيا نفسها في ذلك. كان المتفتتون – أي الذين زالت امبراطوريتهم كالمسلمين – أكثر الخاسرين، فعلينا مراجعة تجربة مفتتة زادتها الأيام تفتتاً، وهي مثلت في النهاية تجربة المذهبيات الإسلامية المشغولة بالحروب الكلامية والحقيقية معاً. كان بروز الرأسماليات الحكومية بشكل طائفي تعبيراً عن صراعات الماضي الخاوية، وعن الرغبة في استعادة الامبراطوريات، وعن ضعف الرأسماليات الحكومية في بلدان محدودة السكان، وعن تخلف هؤلاء السكان الاجتماعي والاقتصادي، وعن عدم وجود طواقم حكومية ذات كفاءة في رؤية مسارات التطور وضعف التعاون بين هذه الإقطار الدينية.
صحيفة اخبار الخليج
2 مارس 2009