في كثير من مفاصل العمل السياسي العام لدينا هنا في البحرين, كم تبدو جلية حيرت المتابعين للشأن العام حيال العديد من الملفات والقضايا بكل ما يعتريها من حالات صعود وهبوط وتململ وتعقيد أحيانا تكون مفاجئة فيما تبدو سهلة التوقع أحيانا أخرى, وهي لذلك تسهم في تشكيل المزاج العام في البلد إما سلبا أو إيجابا, وذلك تبعا لطبيعة أو حدة وحجم إسقاطات تلك القضايا الضاغطة على فريقي المعادلة, ونعني بهما الفريق الرسمي ممثلا في مؤسسة الحكم وفريق المعارضة السياسية بكل مكوناته وبشكل خاص القوى المؤثرة فيه بقوة. بطبيعة الحال لا نختلف نحن هنا في مملكة البحرين عن بقية الدول النامية على وجه التحديد, وحتى لا نقول الدول العربية فحسب, من حيث طبيعة تعاطي طرفي المعادلة, مع القضايا والمصاعب التي كثيرا ما تعترض مشاريع الإصلاح السياسي والاجتماعي, ليس فقط بسبب سطوة المعوقات البيروقراطية وتلكؤ الحكومات أو حتى تخبط بعض قوى المعارضة وتبعثر أولوياتها, كما تحاول بعض الأطراف تشخيص ذلك بصورة عابرة أحيانا, وإنما نظرا لعدة أسباب جوهرية أخرى تظل غائمة الملامح في بعض جوانبها, نظرا لطبيعة العلاقات والممارسات القائمة بين مختلف مكونات المجتمع من جانب وانعدام أبسط مقومات عوامل الثقة بين تلك المكونات, علاوة على نوعية ودرجات الوعي والنضج السياسي والقبول بالآخر على قاعدة التعددية التي هي الأخرى تبقى شعارا سهلا ممتنعا, والتي يطول شرحها هنا لو أعطينا لأنفسنا فسحة تفكيكها, حيث تظل تلك الأسباب الجوهرية مواربة أو أحيانا مغيبة بفعل عدة عوامل كامنة لكنها سرعان ما يفتضح أمرها وتبدو مفهومة بشكل اكبر, حتى لتبدو وكأنها مسببات أساسية معدة سلفا على شكل مشاريع إعاقة لنمو تلك الحالة الايجابية التي تهفو وتطرب لها أفئدة الجماهير العطشى لكل بارقة أمل نحو التغيير , لكنها سرعان ما تصاب بحالات دوار ومراوحة يتبعها بعد حين سقوط مدو وتراجع مريع يعيد تلك الأوطان ثانية إلى نقطة البداية التي توهمت يوما أنها قد غادرتها إلى حيث الشروع في بناء الدولة الحديثة دولة المؤسسات والقانون واحترام حقوق الإنسان المنتظرة, والتي كثيرا ما تتبدى كالسراب البعيد التائه في صخب الصحاري القاحلة الظمآ لقطرات الندى العصية. ربما تلك كانت مقدمة تشي بطبيعة واقعنا السياسي البحريني العام وطبيعة القوى المؤثرة والمتصارعة فيه, ونستطيع لو أردنا أن ندلل عليها بالعديد من الأمثلة حول طبيعة تلك العلاقة الملتبسة أحيانا والمشحونة أحيانا أخرى حد الانفجار والتطير من الآخر, لا فرق في ذلك بين الجانبين الرسمي والأهلي القابعين على طرفي المعادلة, وتلك لعمري حالة مرضية يمكن فهم دواعيها, سببتها عقود من حالات انعدام الثقة والخصومات المتبادلة والألغاء والشك وغياب مفهوم الشراكة الحقيقية وتعارض الأجندات والمصالح والأولويات ..الخ, بحيث تتم إعادة الاعتبار بصورة أكثر جدية ومسؤولة للمصالح العليا للوطن والجماهير التي تدور من حيث لا تدري أحيانا كثيرة في أتون من تداعيات وإسقاطات وتراجعات تلك الحالة المرضية والمأزومة أيضا دون أمل لها في الخروج سريعا منها. هنا يمكن القول أن الوقت لم يفت بعد وإن تأخر كثيرا, وبإمكان طرفي المعادلة الإذعان لمسؤولياتهما التاريخية والأخلاقية تجاه ما ينتظره الوطن وناسه الطيبين, انطلاقا من مقتضيات والتزامات مشروع الإصلاح الذي دشنته البحرين وشعبها تحت قيادة جلالة الملك حفظه الله, للخروج من حالة عنق الزجاجة التي كثيرا ما تحدث عنها جلالته وتحدثت عنها مختلف قوى المعارضة السياسية, والتي نرفض أن نجر إليها ثانية, بل إلى حيث النور والممارسة الديمقراطية الحقَة, نحو التأسيس لشراكة حقيقية قائمة على الاحترام والثقة وعدم القبول بشخصنة الواقع السياسي بل السعي لمأسسته, ولكي تخرج البحرين عمليا من تلك الحالة, لابد للجميع من السعي لإيجاد لغة مشتركة فيما بينهم قبل فوات الأوان مثلهم مثل بقية الفرقاء السياسيين في أي دولة متحضرة, بحيث يتحقق معها ولو الحد الأدنى من المصالح والطموحات المشتركة التي تستمد مشروعيتها من احترام الثوابت والالتزامات المتبادلة التي ارتضاها الشعب والقيادة للنهوض بهذا الوطن عند التصديق بتلك النسبة الاستثنائية على ميثاق العمل الوطني. من هنا فان احتفاء ومباركة مجاميع واسعة من شعبنا البحريني لما طرح مؤخرا من مبادرات ودعوات للحوار الوطني والتي خرجت من رحم معاناة ومكابدة لوضع ظل على الدوام متأرجحا ومقلقا وغير مستقر, رغم ما جرى من مياه وتحولات طيلة السنوات الثمان الأخيرة التي تلت التصديق الشعبي على ميثاق العمل الوطني الذي يجمع المختلفون على تأسيسه لواقع جديد في مملكتنا الغالية لا يمكن العودة عنه مهما كلفنا ذلك. ولتكن مباركة الجماهير لدعوات لم الشمل وإعادة التلاحم الوطني والشروع في عملية البناء والإصلاح الحقيقي لهذا الوطن الذي آن له أن يستقر وينمو ويتقدم, حافزا للجميع بالجلوس على طاولة الحوار الوطني الشامل الذي نتوخى منه البدء والشروع في وضع الحلول التي طال انتظارها وبشكل متدرج يكفل للحوار نضجه واستمراريته ويبدد مخاوف من يتشككون في دوافع الحوار, بالضبط كما سعى الى ذلك مشكورا أعضاء نادي مدريد الذي قدموا توصياتهم منذ اسبوعين لجلالة الملك, في ذات اليوم الذي دشنت فيه دعوة المبادرة الوطنية المخلصة التي نحن بصدد الحديث حولها والتي تقدم بها تيار سياسي رئيسي كم خبر العمل السياسي وخبرته التجربة, واقصد بها مبادرة المنبر الديمقراطي التقدمي التي تجهد قيادته وشخصياته الآن في إيصال مضامينها لكافة الأطراف باعتبارها سلة حلول متوازنة, قابلة للإضافة أو الحذف أو التعديل أيضا, لكنها بكل تأكيد تظل تشكل أرضية.
صحيفة الايام
1 مارس 2009