يحيط معالجة القضية القبرصية هدوء وتكتم. هذا ما يفضله الرئيس القبرصي الجديد. ويشاركه الفكرة نظيره القبرصي التركي, فقد فضلا الابتعاد عن أي تصريحات مثيرة تبلبل الشارعين في جنوب القطاع وشماله المحتل, بالرغم من محاولة الصحفيين ملاحقة الزعيمين كلما انتهيا من اجتماع كانا يناقشان فيه احد الملفات, إذ هناك العديد من الملفات التي ينبغي حسمهما مع الانتهاء من الأزمة التاريخية خلال نهاية العام, ثم يخرجان إلى الملأ ليعلنا للعالم نهاية الفصل الدرامي من مأساة طويلة عاشتها الجزيرة منذ صيف عام 1974. دون شك بعض الملفات متعلقة بملفات متشابكة وبعضها منفصل عن الآخر بعض الشيء, ولكنها في نهاية المطاف مرتبط جميعها بهذا القدر أو ذاك بقضية واحدة هي المأساة القبرصية. ولا يناقش الرئيس القبرصي المعضلة القبرصية مع نظيره بمعزل عن رؤية ورأي الأحزاب القبرصية جميعا, فالمشكلة ليست متعلقة بالحزب الذي نجح في الانتخابات ووصل إلى سدة السلطة, إذ إننا هنا أمام قضية وطنية شاملة تهم الشعب جميعه ومسؤوليته مثقلة ومعني بها الشعب وأحزابه التي اختارها في المؤسسة النيابية. لهذا تم إعادة تشكيل المجلس الوطني الذي يناقش بشكل هادئ وفي مناخ صريح ونقدي دون الخروج إلى الشارع وإدلاء التصريحات العنترية, فأهم عنصر في المعالجة هو عدم إثارة الأتربة والغبار لكل ما يتم مناقشته خلف الكواليس وفي قصر الرئاسة. وكذلك تتم القضية في الطرف الآخر, فأهم عنصر تم التشديد عليه هو سرية المناقشات لكل ملف, وقد تم تشكيل لجان تقنية ومتخصصة بشأنها. فلملف اللاجئين هناك لجنة هادئة تناقش خيارات العودة والتعويضات وآلية النسب التي سيتم الموافقة عليها لإعادة نسبة التركيبة السكانية في القطاع الشمالي والجنوبي, وعودة اللاجئين إلى منازلهم بعد زمن طويل قد يكون واقع العودة غير مجدٍ نتيجة المتغيرات الكبيرة في الجنوب والشمال وولادة جيل مختلف. أما ملف المفقودين فهناك جوانب دينية وسياسية في الملف, إذ يطلب الجانب القبرصي من القبارصة الأتراك تسليم ما تم دفنهم لكي يتم دفنهم وفق الطقوس الدينية الأرثوذكسية, أما من يدعون أنهم لا يعرفون مكانهم فإنهم معنيون بالبحث الجاد في سجون تركيا وتقديم معلومات كاملة عن أمكنتهم, هذا إلى جانب مناقشة حجم التعويضات التي ستبقى سرا حتى اللحظة الأخيرة, لكي يعلن عنها بعد الانتهاء من ملفات كثيرة أهمها خلو الجزيرة من كافة القواعد العسكرية, فهناك جيش تركي يقارب الثلاثين ألف جندي وقاعدة يونانية لا تتعدى الاثنا عشر ألفا. غير إن طرح مسألة خلو الجزيرة من القواعد أربك وجود قواعد عسكرية بريطانية, وهذه ربما يتم معالجتها في إطار حلف الناتو كون قبرص عضوا في الاتحاد الأوروبي, مما يشكل حالة سهلة ومستعصية من الجانبين أثناء الحوار حول القواعد. وسيناقش الجانبان في احد الملفات قضية الدولة الفيدرالية ثنائية الاثنية أو القومية ومدى الحقوق وحجمها دستوريا بين الطرفين, واللذين سيتم تحديدهما في نصوص الدستور الجديد, إذ سيتم إلغاء الدستور القديم وتغيير العلم للدولة الجديدة القادمة في إطار عضوية الاتحاد الأوروبي, الذي أصبح الدعم والسند القوي لقبرص المحتلة وهما يتحاوران حول مصير الجزيرة بل ومصير تركيا وعضويتها في الاتحاد, فهناك تشابك عضوي بين خروج الجيش التركي ورفع يد تركيا وهيمنتها على الجزيرة الصغيرة وترك الشعب القبرصي بثنائية طائفتيه إدارة شؤونهما, بل ومناقشة كل ما يتعلق بالحل بعيدا عن كل وسائل الضغط وتحديد ما يهم مصالح تركيا أكثر من مصالح الطرف الشمالي في الجزيرة ومصيره بالالتحاق بالقطار الأوربي, والخروج من وضعها الاقتصادي السيئ وعزلته وحصاره. ما زال النقاش مستمرا حول تقسيم الحقوق السياسية والمدنية للطرفين في إدارة شؤون الدولة وتسطيرهما دستوريا, ومواصلة ترسيم الحدود الجديدة للطرفين وبعدها يتم إزالة كل معالم التقسيم فتصبح الجزيرة الفيدرالية موحدة من حيث وثيقة السفر ومعالم أساسية أخرى ينتظرها الشعبان والعالم اجمع. لا بد وان تتم أثناء الحوار حالة من التنازل والتضحيات من اجل مبدأ أساسي وهو إما توحيد الجزيرة أو تقسيمها إلى دولتين, فقد تعب العالم من مشاكل معلقة دون حل, فهناك مساع حثيثة في الاتحاد الأوروبي إعطاء كل الاثنيات حقوقها كاملة, ومن ثمة دمجها في الاتحاد إما في إطار فيدرالي لدولة واحدة أو دولتين مستقلتين ستصبحان في نهاية المطاف دولا وأعضاء في الاتحاد الأوروبي, ولهذا قرر القبارصة بطرفيهما الدخول بدولة موحدة وقوية متكاملتان معا في شؤونهما السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ومن يتابع عن قرب مدى اهتمام الأحزاب جميعها بخنق مفاتيح التطرف والكراهية القومية والدينية, فهناك دائما مجموعات وكتل متطرفة لم ولن يعجبها أي حل, ومن المهم تقطيع كل خيوط الكراهية التي تعمقت داخل شعب تم تقسيم واحتلال بلده وظلت طوال هذه المرحلة لغة الكراهية والتشنج هي الأكثر تعزيزا في الشارعين الشمالي والجنوبي. إن أجمل ما نراه هو سعي منظمات المجتمع المدني في الطرفين الالتقاء لتوثيق العلاقات الإنسانية والاجتماعية وتقطيع جذور الماضي المشؤوم, لهذا نسمع اصواتا مستمرة تنادي “بضرورة النظر للمستقبل ولكل ما يهم أطفالنا من سعادة وأمان”.
صحيفة الايام
1 مارس 2009