في باكستان الحكومة تعلن عن إبرامها اتفاق مع الزعماء القبليين لحركة طالبان الباكستانية الموالية لتنظيم القاعدة يقضي بتطبيق الشريعة الإسلامية في وادي سوات بشمال غرب باكستان مقابل توقف الحركة عن مهاجمة القوات الحكومية الباكستانية.
وفي الصومال البلد العربي العضو في الجامعة العربية الذي انهارت فيه الدولة كمؤسسة بفعل الحرب الأهلية المستمرة منذ ثمانية عشر عاماً، حث أبويحيى الليبي القيادي البارز في تنظيم القاعدة في شريط فيديو بثه موقع إسلامي على شبكة الانترنت يوم الثالث عشر من فبراير الجاري، ميليشيات تنظيم الشباب المحسوبة على تنظيم القاعدة، على تكثيف هجماتها ضد الحكومة الجديدة برئاسة عمر عبدالرشيد علي شارماركي وضد رئيس الصومال الجديد شيخ شريف أحمد .. مناشداً تلك المليشيات بأن تصوب سهامها إلى نحريهما وأن تشد حملاتها عليهما. وذلك على الرغم من أن شيخ شريف أحمد هو شخصية سياسية صومالية محسوبة على الجماعات الإسلامية، وكان حتى وقت قريب يرأس المحاكم الإسلامية التي استولت على الصومال قبل إسقاطها على يد القوات الأثيوبية الغازية، إلا أن منظمة الشباب الأصولية المتطرفة التي باتت تسيطر الآن على بعض المناطق في الصومال وتمارس فيها تطبيقات الحكم الطالباني في المناطق الأفغانية الواقعة تحت سيطرة حركة طالبان – لم تعد تعتبر شيخ شريف أحمد مسلماً بعد أن أدرجته في قائمة المعادين للإسلام.
وينقل بعض المصادر أن الجماعات الأصولية المحسوبة على تنظيم القاعدة قد انتقلت لبسط سيطرتها على المجتمع في إحدى المدن العربية، من خلال القيام بفرض أجنداتها وقوانينها وإجراءاتها المحاكية لما كان سائداً في إمارة أفغانستان قبل سقوطها في .2002
ومن اليمن، حيث أُعلن عن توحيد فرعي اليمن والسعودية لتنظيم القاعدة تحت مسمى تنظيم القاعدة في الجزيرة العربية، تتوارد الأنباء عن نشاط محموم لخلايا التنظيم الجديد لتحويل اليمن إلى ملاذ آمن لتنظيم القاعدة بعد الضربات والخسائر الكبيرة التي مُني بها التنظيم في العراق، وذلك بهدف تحويل اليمن إلى قاعدة انطلاق لسلسلة عمليات إرهابية يخطط التنظيم لتنفيذها على أمل إعادة إشعال جذوة ‘الجهاد’ وثقافة الموت والقتل والتدمير، التي يبدو أنها فترت وخبا وهجها لدى المغرر بهم من الشباب الفقير نقي الإيمان.
بل إن المراقب حيثما ولى وجهه وبصره على امتداد الساحات العربية سيجد أن رموز وقسمات الدولة الدينية شاخصة أمامه متخذة أشكالاً بارزة لا تخطئها العين.
يحدث هذا ليس في غفلة من الزمن وإنما في خضم حالة الارتباك النهضوي التي تميز عملية الحراك التنموي والمجتمعي، والتي تتناهبها عديد التيارات والاتجاهات والنزعات أبرزها نزعتا التمدين والتديين اللتان تتجاذبانها بصورة مختلفة كمشروعين متقابلين يمثلان رؤيتين متضادتين للتنمية الشاملة والإدارة المجتمعية الكلية، يحاول، ويعمل، كل فريق منهما إنفاذهما على الأرض بدرجات متباينة من الحدة والقسرية وربما الفجاجة الظاهرة أحياناً.
وليس عسيراً على المراقب الوافد من خارج المنطقة ملاحظة التجسيدات الحية لهذين الشكلين من أنماط الحياة في صورتهما المتضادة الصارخة، الأول في صورة التطور الطبيعي للدولة والمجتمع بدفع من قيامهما بوظائفهما المعتادة المشرعنة والممنهجة وفقاً لتشريعات وقواعد ونظم إجرائية وآليات تنفيذية .. وفي صورة تواصل، طبيعي أيضاً، مع العالم الخارجي، إنتاجاً واستهلاكاً وتصديراً وتوريداً، بما تمليه عليهما عضويتهما في النادي العالمي الكبير ومؤسساته المتشعبة والمتعددة الأطراف، وبما ينطوي عليه هذا التواصل من تلاقحات حضارية وثقافية بالغة الأثر…
وفي الشكل الثاني سيجد ‘معالم’ (Landmarks) للدولة الدينية هنا وهناك، وممارسات وطقوس يجري العمل بها وتكريسها ضمن نطاقات نفوذ مجتمعي مفتوحة برسم نمط الحياة العصرية المنفتح الذي هو بالضرورة من نتاجات ومخاضات التطور الطبيعي إياه للدولة العربية الحديثة وعملية إعادة الإنتاج اليومية لمجتمع هذه الدولة بكليته.
إنما الفارق بين نمطي الحياة سالفي الذكر هو أن عملية تشكيل وإشادة الثاني تجري بصورة فظة وبتدخلات قسرية من جانب القوى المندفعة بحماس متعجل واستعجال مشوب بتوتر ونرفزة يؤشران إلى حجم الغلو والتشدد الذي يغلف اندفاعات دهاقنة مشروع الدولة الدينية لفرض مرتكزاته ومقوماته كأمر واقع على المجتمعات العربية.
إنها موجة عاتية لا تتناسب بالمطلق ولا تتناغم البتة مع حجم التحولات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والنفسية والتكنولوجية التي شهدتها البلاد العربية على مدى العقود الخمسة الأخيرة وذلك برغم كل التحفظات الممكن تسجيلها عليها.
هي موجة تحاول اقتلاع الدولة المدنية العربية، غير الراسخة بعد، من جذورها بهدف الحلول محلها واستبدال وظائفها شكلاً ومضموناً. وهي بهذا المعنى تُذَكِّر بما كانت تعرضت له بلدان المركز الرأسمالي في أوروبا الغربية عندما تجاذبها نمط الإنتاج الإقطاعي الآفل ونمط الإنتاج الرأسمالي المستجد والصاعد بقوة آنئذ حين كانت الكنيسة تتقاسم مصادر السطوة والنفوذ على مجتمعاتها مع أنظمة الحكم السائدة وتلك الحداثية الآخذة في شق طريقها لرفد التحولات الرأسمالية النوعية التي شهدتها في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
وكان لابد في نهاية المطاف لقوة الاقتصاد والعلاقات الإنتاجية والاجتماعية التي أنشأها وأشاعها ورسخها عمودياً وأفقياً في مختلف بنى ومناحي المجتمعات الأوروبية الناهضة، من أن تبسط سيادتها وأن تصوغ نمط الحياة الأوروبية المعاصرة التي نعرفها اليوم بتراكماتها الثرية والعامرة بالدروس والعبر.
ولكن.. على المجتمعات العربية، حكاماً ومحكومين، وهم يتعاطون، بصورة أو بأخرى، ويتعايشون مع هذه الثنائية المتضادة، أن يدركوا أن باكستان لم تكن دولة دينية حين استقلت في عام ,1947 فالذين تصدوا لعملية تنميتها الشاملة من أمثال محمد علي جناح وعميد الرأسمالية الوطنية الباكستانية مؤسس حبيب بنك وغيرهما، كانوا من رواد النهضة والحداثة. ولم تتخلف باكستان علمياً وتكنولوجيا عن جارتها الهند إلا بعدما انقلب العسكر بقيادة ضياء الحق على الحكم المدني برئاسة ذي الفقار علي بوتو في عام .1979 يومها لم يُقسم ضياء الحق على دستور البلاد، معتبراً أن باكستان منذ تلك اللحظة ستتحول إلى دولة دينية قوامها الجماعات والطوائف والقبائل وأصحاب النفوذ في المؤسسات العسكرية والأمنية والاقتصادية التي أقحمت الدين في كافة مناحي الحياة الباكستان خدمة لمصالحها الذاتية.
الوطن 28 فبراير 2009