المنشور

سراب الديمقراطيات العربية


قامت بعضُ الدول العربية بتقليد الديمقراطيات الغربية العريقة التي جاوزت في نموها السياسي عدة قرون، معتمدة على إرثها الطائفي وحياتها الاجتماعية المحافظة، وكأن الديمقراطية مجرد صندوق انتخاب ومناطق تصويت.
كان سحب مثل ذلك التاريخ العريق يتجاهل حقائق كبرى تشكلت عبر تطور اقتصادي موضوعي، وأهمه نشوء برجوازيات صناعية تحديثية علمانية حرة استطاعت أن تحقق الوحدات الوطنية عبر فكرها الديمقراطي، وألغت الإقطاعيات المفككة للخرائط القومية، وعبر تشغيل الطبقات العاملة في مصانعها ومؤسساتها الاقتصادية، بغض النظر عن كم الاستغلال والتعبيرات المطاطة لديها عن تـمثل الشعب ككل، والتعبير عن حقوقه الأبدية!
لم يسمح أي نظام عربي بظهور وتوسع مثل هذه البرجوازية الوطنية العلمانية، التي تستطيع بحكم غناها وتنورها أن تقوم بقطيعة مع الإقطاعين السياسي والديني، اللذين يمثلان العقبة الرئيسية لتوحد وتطور أي بلد عربي.
فكان من أثر هذه )الديمقراطيات) العربية تقوية الإقطاعين السابقي الذكر، ليعملا في أي بلد تمزيقاً وتحطيماً وإرجاعاً للخلف.
في بعض البلدان عملا لهدم الوحدة الكيانية للبلد، فهذا قطاع وذاك قطاع آخر، وكلٌ واحد منهما محكوم بقانون وقطاع يتوجه للحرب والمغامرات العسكرية الكارثية وقطاع لا يملك حتى دفع أجور موظفيه.
السماح لهذه القوى بنشر دعاياتها المسمومة وتمزيق وحدة المؤمنين، ثم باستيلائها على مؤسسات عسكرية وقوى عسكرية وتفكيك الأقاليم، أدى إلى حدوث انقلابات دموية.
السلطات الحاكمة بالسماح لهذه المعارضات بالنشوء والتوسع كانت تداري مشكلات عميقة داخلها، خاصة تجذر الفساد، وحدوث القلاقل بين الأوساط الشعبية الجاهلة المدفوعة بقيادات إقطاعية هي شر عليها أكثر من الأنظمة، وبسبب الأزمات الاقتصادية، أو تقاسم النفوذ في الحكم وتقاسم الثروات.
وبدلاً من تبصر المخرج الحقيقي في عدم التلاعب بالأديان لمصالح ضيقة، وإبعاد الأوطان عن تملك الأحزاب والأسر والجماعات، وتحويلها لأجهزة مستقلة يديرها من يفوز بانتخابات حرة، بدلاً من ذلك شرعت في مفاوضة القوى الطائفية على تقاسم النفوذ والمصالح، مما عمق الأزمة بدلاً من أن يزيلها.
كانت الديمقراطية تحتاج إلى عدة عقود من نشر ثقافة ديمقراطية علمانية، ومن تحقيق إصلاح زراعي يوزع الأرض على الفلاحين، ومن علاجات عميقة للاستبداد بالنساء، ومن تغيير للتعليم العام الديني المحافظ الممزق لوحدة الدول.
وجاءت (الديمقراطيات)على أنقاض الدول الوطنية العسكرية التي سحقت التنوير والقوى الديمقراطية الجنينية في المجتمعات العربية، فأُضيفت الكوارث القديمة إلى الكوارث الجديدة.
إنها دولٌ عاجزة عن تنظيف بيوتها من الداخل فتقفز إلى الأمام قفزة تكسر ساقيها وتجعلها تزحف ثم تتقطع.
تتحول القوى الطائفية المتقوية في مثل هذه الإصلاحات التمزيقية إلى قوى واسعة تضيف المال إلى جماعاتها الأهلية المتعصبة، فتتصارع مع بعضها بعضا ومع الحكومات، في سبيل النمو الأكبر والاستيلاء على السلطات جميعها.
عبرت موجة الديمقراطيات العربية الراهنة البوشية (نسبة لجورج بوش) عن استيراد سياسي يتوافق مع تفكيك القطاعات العامة، وشحن المال النفطي لشراء العقارات في أمريكا، وتشجيع الإقطاعيات السنية والشيعية والمسيحية على التعايش، من دون التنازل عن سلطات كل منها، ومن دون تنازلها عن هدفها في الاستيلاء على السلطات المطلقة في مناطقها أو على جماجم أتباعها كما حدث في العراق بصورة مسالخ بشرية، ومن دون أن تنكر عمليات استهدافها لهذه الديمقراطيات الهشة لإيجاد سلطاتها المتوارية على قبور البلدان العربية الحالية.
وزاد الطين بلة ظهور مراكز للإقطاع السياسي أو الديني ذي الموارد الكبيرة، على مستوى المنطقة، فنجد المركز المصري ذا الإقطاع السياسي ، أو المركز الإيراني ذا الإقطاع الديني، يتصارعان على المستوى العربي الإسلامي العام. التفكيك الوطني يتبعه تفكيك عربي إسلامي وكلاهما يسمم الآخر.
بطبيعة الحال دول الإقطاع السياسي أكثر استنارة، لأنها تتيح بعض الهوامش للتيارات السياسية العلمانية، لكن الفساد واستغلال السلطات وتلاعب الأحزاب الحاكمة والعائلات في الأموال العامة، تجعل مثل هذه التيارات العلمانية مثل الكتاكيت التي لا يُسمح لها بالنمو بعد سن معينة، وعليها أن تقدم التسابيح المدحية كل يوم للأنظمة إذا أرادت عدم الذبح في الآلة الأوتوماتيكية.
فإذا أرادت الحكومة المصرية الانسياق مع الحداثة فإن منع جماعة الإخوان لا يمكن أن يكون مجدياً من دون تحرير الإسلام وتحرير الدولة من الشمولية الحكومية.
تحرير الإسلام يحتاج إلى قراءة علمانية تحديثية عربية إسلامية جديدة تغدو شعبية.
تحرير الدولة من الأسر العائلي والعصبوي يحتاج إلى ديمقراطية تتحالف مع قوى الحداثة والعلمانية والديمقراطية.
بطبيعة الحال فإن الأجهزة والبيروقراطيات التي التهمت الموارد لن تسمح، وسوف تسد آذانها بالشيكات الهائلة التي تتسلمها.
ومهما كانت قوى الحداثة صغيرة فهي المستقبل والحل، وعليها أن توسع تحالفاتها وتعمق قراءاتها للنصوص الدينية وأحوال الجماهير والدفاع عن مصالحها.
الدول تحتاج إلى قادة متنورين ومفكرين يعيشون من عمل أيديهم وليس من الخزائن الحكومية، وإلى تقاعد واسع للصوص!
 
أخبار الخليج 27 فبراير 2009