أُقيمت المدارسُ الدينية على أساسٍ آخر غير الذي نشأ فيه الدين. كانت البدايات الدينية مرتكزة على حرية وديمقراطية مباشرة مع الجمهور ومنافع عامة متاحة للأغلبية. لكن فيما بعد تشكل الفقه على أوامر الدول ومن خلال ماكيناتها السياسية التي راحت تقضم ما هو تحرري، وتكرس ما هو استغلالي وتحكمي في الجمهور. هناك شيءٌ مشترك بين الفترتين هو السيطرة الذكورية داخل الأسرة، حيث حاول الدين التأسيسي أن يخفف من الهيمنة الذكورية، لكن الظروف الصحراوية والقبلية والأمية الثقافية كانت تعوقُ ذلك. لا يوجد القانونُ المطلقُ المجردُ من الملابسات التاريخية، فقد كانت القوانينُ الدينية جدلٌ اجتماعي بين المشرع والناس، ووُضعت – تلك القوانين – في فضاء الدولة الشعبية ذات الديمقراطية المباشرة، أعطاها الدينُ السلطة والثروة، ولم تتشكل هيئاتٌ شعبية منظمة تجعل تلك القوانين محل نظر ومراجعة دائمة، إلا بشكلِ تشاور أهل الحل والعقد، وكان ذاك مجلساً تشريعياً، غيرَ محددِ الأعضاء بصورةٍ رسمية وقد قررَ قرارات خطيرة فقهية لم تكن موجودة في القرآن، كمسألةِ تملك أراضي الفتوح للدولة. أما قضايا أخرى كالحدود فهي مرتبطة بغياب الإرث القانوني للقبائل، وكذلك بإتاحة الدولة الناشئة الخيرات للأغلبية. فيما بعد ومع سيطرة الدول الاستغلالية تم الحفاظ على العقوبات والموانع والقيود، وألغي الجوهر الاجتماعي لتلك الفترة! سُرقت الأراضي العامة وتم تجاهل أحكام الملكية العامة في الإرث الصحابي، لكن تم التحجر بقوة في أحكام كثيرة أخرى! ولم يقبل الناسُ قرارات الدول فكيف بإعادة النظر في الأحكام بل انقسموا وتصارعوا. ولم يكن للمدارس الفقهية قراءات تاريخية تضعُ الأحكامَ في سياقِها الحقيقي، ولعبَ التقربُ للسلاطين والسلطات دوره في قلب الأوضاع التشريعية. فما كان سرقة فردية عُوقب صاحبها بقسوة وما كان سرقة عامة بُجل حراميها ومُدح! انقلبت الأحكامُ رأساً على عقب، وصار القانونُ الديني العام يمشي على رأسه. وحاول تابعون كثيرون تعديل الجسم المنقلب فحوصروا وسجنوا وعذبوا ثم سكت التالون. وبين فقه الحرية وفقه العبودية مسافاتٌ طويلة، كيفت الدولُ والجماعاتُ الاستغلالية المهيمنة التشريعَ لصالحها، فتغيرتْ الأمور وتم غسل أدمغة الشعوب، ووضعوا في خطوط ضيقة لا يتحركون عنها يمنة أو يسرة، وينشأ الناشئ فيهم على ما علمه أبوه، وصار فقه العبودية هو المناخ الذي يتنفسون فيه. في الدول الضيقة الأحكام المتشددة، التي تقول إنها جنة التشريع الأصيل الأبدي، يكثرُ خرقُ الشرع، ويغدو البشر مختنقين بملابسهم المشدودة على أرواحهم، وتكمنُ وراءها كل النيات الخطرة المتوارية، ظاهرٌ صارمٌ وباطنٌ منفلت، يسعى لأي فرصة كي ينفجر مندفعاً في كل الجهات! الأب القوي الصارم يتحكم في كل شاردة وواردة في البيت، ابناؤه يمشون على سكك دقيقة، إذا انحرفوا جاءهم العقاب، لا يعرفون سوى الطاعة، خائفون من أي خطأ، تحولت لهم المدارس إلى سجون أخرى، وإذا حصلوا فرصة لقفز جدرانها قفزوا، لكنهم يقفزون جدران هذه السجون البيتية والفقهية الأبوية بقوة حين يتسنى لهم بعض الحرية، متوجهين لحرية فوضوية، تكسر كل ذلك الماضي العفن في رأيهم! تصبح الحرية موسيقى زاعقة مصدعة محطمة للرؤوس والآذان، تغدو مخدرات، وجرائم، وسرقات من المالين العام والخاص. تتحول الهيئات المختلفة إلى مؤسسات عقاب، تحمي هذه الخيرات المحبوسة عن الأغلبية، تتركز الأحكام على العقاب، ولا توجد قوانين للثواب، والحد من هيمنة بطش أبوي. إن فقه الحرية يساعد على نمو الصوت المختلف في البيت، على تنامي الشخصية المسئولة، ليبرز الإنسان دواخله الحقيقية ، ليكشف باطنه المتواري، ولينفس عن غرائزه في ظل القانون، ولتتم مراقبة هذه الغرائز بدلاً من أن تنمو في الظلام وتتحول إلى كائنات خرافية مسيطرة. يركز فقه العبودية على المحرمات، يكبت، يصادر، يقمع، كل شيء مشبوه، يحاول جعل الظاهر مستقيماً نظيفاً بالعصا والجدران، لكنه لا يقدر، الغرائز تتفجر، الشخصيات مثل قطرات المحيطات، تظهر ألوانها المختلفة، والقمع يفجرها، والعصا تنكسر، والقوى الباطنة التي نمت في الظلام تصير وحوشاً! نرى كل الدول والأسر – الزنزانات تتصدع، وتخرج الوحوش في ساعة انطفاء عام للكهرباء التنويرية، يتحول الأولاد إلى مشوهين ومجرمين، وقوى الحارات المعدمة تصير ناراً، وعصاباتٍ تسرقُ كلَ شيء متاح، وما بني في سنوات يزول في لحظات. فقه الحرية على صعوبته ودقة مسئوليته لا بد أن يترابط مع مؤسسات القطاع العام، التي يجب أن تقدم الأجر الجيد للمواطنين ولمستقبلهم، ومع مؤسسات التعليم والثقافة، لكي لا تتحول المدارس إلى أدوات لإنتاج المعقدين والمرضى. فقه العبودية سهل لا يحتاج سوى توزيع القيود والكلبشات على الأيدي والعقول والخيارات، وتوسيع أوامر المنع، والرجم، والحجر والحجز لتنمو الجراثيم في السر. يقود القطاعُ العامُ الديمقراطي والملكية الخاصة المنتجة والثقافة الوطنية إلى إعادة الوحدة المفقودة للناس بعد قرون من النزاع، إلى بداية أن يمشي المجتمع على قدميه المعلقتين في فضاءي الاحتجاز والاستغلال، وهي مسيرة طويلة لا تتحقق بسهولة، فوراءها وأمامها ميراث من القهر ومن النفسية الاجتماعية الهائلة المعقدة التي عاشت في تلك الكهوف وحين تخرج لبعض النور تضطرب، وتتطرف، وتقوي حجج أهل العصا، لكن هذه المسيرة ليس ثمة طريق آخر غيرها. في السجون تتركز مسألة العقاب ويدمغ الإنسان بالاجرام ويظل مشبوهاً طوال عمره لينتج مجرمين آخرين، مثلما أن ينابيع الاجرام مفتوحة في أماكن أخرى. يحتاج فقه الحرية إلى قرون ليصحح ما أفسده الزمن الطويل.
صحيفة اخبار الخليج
26 فبراير 2009