المنشور

المحافظون الإيرانيون والطريق المسدود

تحجرت آلة الدولة الإيرانية الضخمة التي تنامت خلال نصف قرن، وغدت بحاجة إلى إصلاحين سياسي واقتصادي، وظهرت الأزمة في تضخم جيوب البيروقراطيات الاقتصادية والسياسية والعسكرية والدينية، التي رفضت طريق التغيير، طريق الشفافية والحريات السياسية والإعلامية، وقد ظهرت العملية المضادة لهذه المركزية الشديدة من داخل الفئات الوسطى المشاركة في الحكم، ولكن حتى هذه الفئات تم إقصاؤها، ولكن حاجات الإصلاح ملحة، وهي تقود إلى أزمة (ثورية) تهدد النظام الديني بمجمله، خاصة أن الشعب الإيراني له تقاليد في ذلك، فهو يصبر طويلاً ثم ينفجر بشكل عمل سياسي هائل.
ومن هذا الموقف العنيد في رفض التغيير ركز المحافطون على فعل السياسة الخارجية، كسبيل يمثل الهروب إلى الامام.
وكانت في أيديهم أوراق عديدة راحوا يستعملونها، من أجل نقل الأزمة الداخلية للخارج، وتصوير إيران بقوة التغيير في المنطقة، وباعتبارها اللاعب الكبير المؤثر، وأنه لا بد للقوى الغربية الكبرى أن تتركها في وضعها الخاص بها، والذي تراه الدول الغربية بأنه لا يتطابق مع حقوق الإنسان وأنه طريق يهدد الجيران والعالم، وهو وضعٌ خطرٌ تغذيه روسيا من أجل مصالحها.
كان العراق من أهم المحطات لتصدير مثل هذه الأزمة واستخدام الميليشيات للصراع الطائفي، ولرفض تطور العراق باتجاه الوحدة الوطنية والديمقراطية. وهذا ما جعل الإدارة الأمريكية السابقة تذعن لهذا الضغط وتقيم ما يشبه الإشراف الثنائي على الوضع في العراق، الذي كان يتأرجح بين قوى سياسية متعددة، وبين قوميات كل منها له تطوره الخاص، وقوى دينية متنفذة رأت ضرورة تنامي الوحدة السياسية للشعب المؤدية للخلاص الحر، وعدم الصدام المباشر مع القوى الكبيرة التي تريد التحكم في البلد.
وبهذا فإن هامش المناورة للقوى المحافظة الإيرانية في العراق راح يتقلص، وإن لم ينقطع كلياً، وفيه ثغرات كبيرة يمكن منها زعزعة الأوضاع وتوجيه أنظار الشعب الإيراني للخارج.
وكان لبنان محطة دائمة للتدخلات الإيرانية، فهو محاولة مستمرة للتذكير بالثورة الدينية المنطفئة داخل إيران، التي تحولت على العكس إلى ثورة مضادة ضد حرية الشعب وتقدمه. ومن هنا كانت معارك حزب الله في لبنان مهمة لتغذية هذا الوهم، فهي قضية حق أُريد بها باطل، وقد أدى هذا التشجيع إلى طريق مسدود كذلك لحزب الله، وكانت الحرب الأخيرة قد وضحت المدى العدواني الشاسع لإسرائيل، وعجز الطرفين الإيراني والسوري الحكوميين المشجعين عن القيام بأي رد في مستوى هذا العدوان، وهذا قد أوضح خطورة مثل هذا المنزلق بالنسبة إلى حزب الله، كما أن الصراعات الحادة التي شهدها لبنان جعلت مسألة استخدام سلاحه مختلفا عليها كثيراً، ولكن الحزب انخرط في التوحد الوطني مثل قوى سياسية عديدة يجعلها البناءُ الداخلي وقوانينه تبدل عملية الخضوع للخارج، وتنخرط في شؤون وطنها بصورة أكبر، فهذه العملية البنائية مرتبطة بجمهورها الفقير الذي يعاني ويريد السلام والغذاء والمساكن لا المواجهات. لكن ذلك ليس كاملاً حتى الآن، وإن كان التأثير الإيراني المحافظ المغذي للصراعات في المنطقة خفت لديه.
فالتأثيرات تنبع من داخل الحزب وخارجه، ومن التأثيرات الحكومية السورية كذلك، ولهذا فهو يبقى مفيداً للقوى المحافظة والاستفادة منه لأهدافها في تصدير الصراعات للمنطقة.
وحتى الشريك السوري في التحالف مع إيران لم يعد متطابقاً كلياً معها، فقد أدت الصراعات في لبنان والصراع مع إسرائيل إلى أن ترتفع أسهم الطرف السوري الحكومي لدى إسرائيل، فظهرت المفاوضات السرية ثم المعلنة، وصعد النجم التركي في سماء العلاقات السورية المناطقية، وهو أمرٌ يوحي كذلك بأن لدى الحكومة السورية طريق سياسي آخر غير الطريق الإيراني المذهبي المتشدد، طريق المرونة والعلمانية، خاصة أن لدى حزب البعث تاريخاً سابقاً مدفوناً في هذا.
إذن أخذت الأوراق المستخدمة من قبل حكومة المحافظين الإيرانيين في التساقط مثل أوراق شجرة خريف سياسية، فلا المذهبية قادرة على الانصياع الكامل، ولا الحلفاء باقون على صلابتهم السابقة.
ومن هنا قامت باستخدام ورقة البحرين، لإحداث شيء من الحراك القومي المتعصب داخل الجمهور الإيراني، فعبر هذه الادعاءات تبرز نفسها كمدافعة عن الأراضي الإيرانية، فتغذي ذلك التعصب، وتطمس الصراعات الاجتماعية المتفاقمة داخلها.
أقامت هذا بشكل دعائي ايديولوجي، لغرض ألا تتعرض مصالح اقتصادية لديها للخطر في البحرين وفي دول مجلس التعاون الخليجي، فالقضية ليست قضية فعلية، ولكن عبر تكتيكات الهجوم نفسها في الخارج وتصدير الأزمات إلى المنطقة، ولكل بلد طريقته وأدواته ومداه السياسي الخاص المحدد الذي يجب ألا يتجاوزه ويهدم كل شيء.
وتأخذ مسألة الأسلحة النووية والهيمنة في مياه الخليج مدى حقيقياً جدياً، وهي مسألة تغدو هنا ذات أهمية عالمية قصوى، فالمحافظون الذين سدوا الأبواب في وجه تطور إيران الديمقراطي لم يعودوا قادرين على التراجع، وصارت الأسلحة لديهم طريقة للبقاء في السلطة رغم الأعاصير حولهم.
هذا يجعل قوى عديدة إيرانية في الداخل ترفض عملية الانتحار هذه، ويظهر دعاة سلام وحريات وتجنيب البلد محرقة كبرى.
وإذا كان المحافظون معرضين لهزيمة نكراء في الانتخابات فإنهم يحاولون التملص من ذلك واتباع سياستهم التقليدية عبر الهروب إلى الامام وإثارة الصراعات في المنطقة تشبثاً بسلطة رُئيت أنها أبدية وإنقاذية ختامية للشعب الإيراني.

صحيفة اخبار الخليج
25 فبراير 2009