ورقة جمعية المنبر التقدمي الديمقراطي
دور مؤسسات المجتمع المدني في تعزيز مبدأ تكافؤ الفرص
يقدمها / الأستاذ عبد النبي سلمان
نائب برلماني سابق
منذ أن دشنت البحرين حالة الانفتاح السياسي فيها،وبشكل خاص بعد أن تم التصديق الشعبي على ميثاق العمل الوطني في منتصف فبراير من العام 2000، كان من بين العديد من القضايا التي برزت للسطح مسألة تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص والتي بدت وكأنها مجس لمدى مصداقية توجهات الإصلاح ذاتها، حيث بقيت ضاغطة بقوة ولا زالت حتى اللحظة، والتي ارتبطت عمليا بممارسات التمييز وعلى أكثر من صعيد، تلك الممارسات التي وجدت لها وبكل أسف أرضية خصبة حتى تزدهر ويتطاير شررها ملوثا سماء وحدتنا الوطنية التي ظلت على الدوام الحصن المنيع أمام كافة أشكال التشطير المجتمعي منذ عقود ما قبل الاستقلال وحتى الآن، حيث يراد لمجتمعنا الصغير المسالم المتحاب أن يجر نحوها عنوة، وقد تجلى ذلك من خلال الكثير من مظاهر الانقسام والتآمر والفرز الطائفي البغيض والتي ما انفكت تعمل على إشاعته والاستفادة من مخرجاته الرديئة قوى طائفية نفعية متسلقة، مستخدمة لأجل تحقيق مآربها الدنيئة تلك كافة أشكال التآمر عبر إذكاء أساليب الكراهية بين أفراد وفئات مجتمعنا واللعب بأوراق المذهبية والدين وحماية المجتمع من المؤامرات الخارجية والداخلية، متناسية أن لمجتمعنا ذاكرة وطنية حية لا يمكن أن تمحى أو تموت. ومما زاد من قوة عزيمتها للمضي في مخططاتها تلك نحو السعي لتفكيك تلاحم ووحدة مجتمعنا هو بكل تأكيد تراخي بل ومباركة العديد من الجهات الرسمية والأهلية ذات المصلحة في تحقيق ذلك الفرز البغيض، والتي بات عليها أن تتحمل مسؤولياتها كاملة عن إشاعة تلك الحالة المرضِية المرهقة لمسيرتنا الحضارية، مما يستدعي منها أن تبادر نحو إصلاح ما خرَبته وهدمته بمباركتها تلك من ثوابت وطنية في قوام وحدتنا وتقدمنا الحضاري. وكما هو معلوم للجميع، فقد ارتبط تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص أساساً بمسألة الأمانة في تحقيق العديد من المواد والبنود الدستورية والكثير من القوانين المعمول بها، والتي يهمنا الإشارة هنا إلى بعضها، فها هي المادة (4) من الباب الثاني الخاص بالمقومات الأساسية للمجتمع من الدستور والتي تنص على أن “العدل أساس الحكم، والتعاون والتراحم صلة وثقى بين المواطنين، والحرية والمساواة والأمن والطمأنينة والعلم والتضامن الاجتماعي وتكافؤ الفرص بين المواطنين دعامات للمجتمع تكفلها الدولة”، فيما نصت الفقرة (ب) من المادة الدستورية رقم (16) من الباب نفسه على أن ” المواطنون سواء في تولي الوظائف العامة وفقا للشروط التي يقررها القانون”، في حين جاءت المادة (18) من باب الحقوق والواجبات لتؤكد في مضمونها هذا الحق الدستوري الواضح، حيث نصت على أن ” الناس سواسية في الكرامة الإنسانية، ويتساوى المواطنون لدى القانون في الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة”.
علاوة على ذلك فإن تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص ووقف كافة أشكال التمييز والسعي لتطبيق المساواة هي مبادئ أساسية لا يمكن الحديث عنها بعيدا عن الإصرار على التطبيق الأمين لمبدأ العدالة الاجتماعية الذي أكده الدستور في أكثر من مادة وبند، وأقّرته البحرين من خلال تعهداتها أمام الأمم المتحدة ومنظماتها المعنية، فان الحاجة تستدعي الاستمرار في الدفاع عن هذا الحق الدستوري بكل قوة ووضوح بعيدا عن إثارة الحساسيات والنعرات المؤذية، والتي أكدت الممارسات على الأرض أن هناك من هم في الجانبين الرسمي والأهلي من لهم مصلحة في التعسف في أساليب وطرق إثارتها بعيدا عن الموضوعية وقريبا جدا من الطائفية والمذهبية وتقسيم المجتمع لحساب مصالح أنانية وأهواء ضيقة. كما أن تحقيق هذا الحق الدستوري يحتاج من قوى المجتمع الحية والغيورة على مصلحتنا الوطنية، إلى نضال مستمر ودءوب من قبل المعنيين بالشأنين الحقوقي والسياسي، ونعتقد أيضا أن سياسات الدولة كما هي مطبقة على الأرض تسير ومنذ عقود باتجاه تكريس التمييز وإلغاء مبدأ تكافؤ الفرص بمنهجية ووضوح وأحيانا من دون أدنى خجل، ولا نحتاج إلى كثير من الجهد لكي ندلل على ذلك، فمن خلال الممارسات اليومية التي تتمثل في تغييب مبدأ تكافؤ الفرص وتفعيل سياسات التمييز على الأرض بحق شرائح واسعة من المواطنين في الكثير من المواقع، ولعلنا هنا نستطيع أن نشير إلى كثرة المناشدات الأهلية الداعية إلى ضرورة التطبيق العادل لمبدأ تكافؤ الفرص في الوظائف العامة والخاصة والتي تتحمل الدولة ممثلة في ديوان الخدمة المدنية والأجهزة الأمنية والعسكرية مسؤولية استثنائية في تصحيح ذلك المسار والنهج المعوَج والذي يمكننا أن نقول عنه أنه لا ينتمي إلى البحرين بلد الانفتاح والتسامح والشيّم العربية الأصيلة، كما أن تلك الممارسات لا تنتمي إلى حضارة وإرث التعايش السلمي الذي كرّسته البحرين عبر قرون طويلة من تاريخها بين مكوناتها المجتمعية، عوضا عن أنها لا تنتمي لروح العصر ولا حتى إلى أبسط المبادئ الإنسانية ولا إلى تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف الذي هو دين الدولة كما جاء في الدستور .
كذلك فإن السعي لتسييس الكثير من القضايا والحقوق في مجتمعنا والتعاطي معها من زوايا أمنية بحتة وأحيانا طائفية، قد هيأ الأرضية لتبدو أكثر خصوبة باتجاه إنتاج واقع جديد لكنه مأزوم بكل تأكيد، فقد أحدثت التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية القسرية خاصة بعد حل المجلس الوطني سنة 1975 والتي تلتها مباشرة سيادة قانون وتدابير أمن الدولة وإلغاء أبسط مظاهر الدولة الدستورية لصالح ممارسات القمع والتنكيل والإقصاء والتهميش لفئات واسعة من المجتمع، قد أحدثت تغييرا جذريا في انعدام أبسط عوامل الثقة بين الدولة والمجتمع، حيث كانت الأمور جلها في قبضة الجهات الأمنية بكل ما اعتراها من فساد وإفساد وانقلاب وتآمر على الكثير من المسلمات الوطنية، والتي فرضت بدورها تعديات صارخة لضرب الوحدة الوطنية برمتها وكان ذلك طيلة ما يربو على الثلاثة عقود من الزمن، والتي جاءت نتيجة طبيعية لإهمال وعجز الدولة عن القيام بمسؤولياتها في العديد من الملفات المعيشية والاقتصادية والسياسية، مما خلق معه حالات متباينة من الغبن الاجتماعي لفئات وشرائح واسعة ربما وجدت نفسها بعيدة عن مراكز التأثير والقرار أو أنها استهدفت في مصالحها المباشرة وغير المباشرة لحساب فئات مجتمعية أخرى، وأحيانا استدعت الأمور سعي الدولة عنوة لخلق واستحداث فئات وشرائح محددة وبمواصفات معينة، حتى يصار إلى تكثيف الامتيازات والمصالح باتجاهها أو لأجلها، وكل ذلك على حساب الشرائح والفئات المجتمعية التي لم تجد إصغاءً مناسبا من الدولة، مما خلق معه مع الوقت تنافرا حادا بين تلك المكونات التقليدية منها والمستحدثة أو الدخيلة، كما يحدث مثلا مع الفئات حديثة التجنيس والتي تعطى من الفرص والامتيازات ما عجزت أن توفره الدولة لمواطنيها الأصليين من المشاريع الإسكانية والصحية والتعليمية، علاوة على ما خلقته تلك السياسات من ضغط على الموارد الشحيحة أصلاً، والتي بسببها تضررت فئات واسعة من المجتمع ليُفرز بذلك واقع مأزوم بالفعل، بات علاجه وتصحيح مساره أمراً ملحا نتيجة ما أفرزه من تشرذم في النسيج الاجتماعي وما استدعاه من عصبيات وفرز وتشظي وتلك مسؤولية الدولة بالدرجة الأولى، باعتبارها من خلق وعمل على تلك السياسات وشجعها وغذّاها عبر عقود من الأخطاء والممارسات التي لا تغتفر بحق البحرين أرضاً وشعباً.
وهنا تبرز أهمية الدعوة إلى دور مختلف لمؤسسات المجتمع المدني بكل تلاوينها وتوجهاتها بحيث يتماشى مع ما أستجد من تداعيات مؤلمة لمجتمعنا، حيث أن رفض تلك السياسات واعتراضها بكل الوسائل السلمية الممكنة بات يتطلب جهودا كبيرة ومسئولة لا تقبل التهاون أبداً، إلا أن ذلك لوحده ليس بكاف، بل أنه من الممكن جداً أن يؤتي بنتائج عكسية إذا لم يترافق معه الوعي الوطني المسئول والمسؤولية المجتمعية التي على الجمعيات السياسية وبقية مؤسسات المجتمع المدني أن تتحلى بها، وحتى لا يبقى دور بعض تلك المؤسسات كمن يصب الزيت على النار ليزيدها اشتعالا، فهذه المهمة تحتاج إلى أكثر من انتقاد توجهات الدولة تلك أو حتى مجرد المزايدة عليها، فهي تحتاج إلى رؤية ووعي وطني وقيادات تعرف أدوارها ومسؤولياتها وتتفهم حساسية وجسامة المهمة وآليات عملها وتكون قبل ذلك قادرة على قراءة واقعها بشكل متجرد، وأن تعمل ضمن مفهوم وطني أشمل يتجاوز الطوائف والملل والأحزاب والتيارات، وأعتقد أن البحرين وقوى المعارضة الرئيسية فيها تحديدا لا تنقصها أبداً تلك الرؤية أو تلك التوجهات، والتاريخ خير شاهد على ما نقول في هذا الاتجاه، كما أن الحاضر يعدنا بتجلياته على قدرة قوى المعارضة ومؤسسات مجتمعنا المدني مجتمعة أن تخلق بمزيد من الإصرار الكثير من الحلول وأن تفرض على من يتربصون بمسيرتنا الحضارية أن يُذعنوا إلى صوت الوطن الذي بات ينادي كل فرد وكل أسرة نحو مزيد من التلاحم واليقظة إلى ما يحاك ضد مصالحنا الوطنية.
وحتى تستطيع تلك القوى أن تلعب أدوارها بإيجابية أكثر، وتحديدا في تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص وإلغاء كافة مظاهر وممارسات التمييز، والاتجاه نحو تفعيل مبدأ العدالة الاجتماعية، فان أساليب النضال السلمي التي جربتها العديد من شعوب العالم تبقى خيارا متاحاً، على أن تقرن بضرورة خلق وعي وطني أشمل يستند إلى رؤية وطنية أكثر رحابة واتساعا من الأفق الطائفي الذي وجدنا أنفسنا فيه بفعل تلك الممارسات المشينة السابقة الذكر لمختلف القوى الضالعة فيها، بحيث نستطيع كمجتمع أن نتجاوز ما هو قائم من تقسيم وتشرذم وتخريب لهويتنا ونسيجنا الوطني، عبر استحضار مبادرات وممارسات أكثر حضارية ووطنية، بحيث تكون قادرة على خلق حالة من الاستقرار والرغبة في العودة بالوطن إلى حالة الوئام المفتقدة، بدلا من الانحدار إلى فوضى مدّمرة لا سمح الله. فها هي النقابات العمالية باعتبارها وعاءاً جامعأً للعديد من شرائحنا وفئاتنا المجتمعية، والتي بإمكان جل مكوناتنا المجتمعية ذات العلاقة، بمختلف فئاتها وشرائحها أن تنصهر من خلالها على قاعدة المصالح المشتركة الجامعة للعمال والمستخدمين بكل ما يمثلونه من قوة ذات مغزى نحو تحقيق الأهداف المرجوة وبالتحديد بالنسبة لمبدأ تكافؤ الفرص وتحقيق العدالة والمساواة المنتظرة في العيش الكريم وبلوغ وحدتنا الوطنية التي يجب أن لا تقبل القسمة أبداً، ولنا في تجربة العمل النقابي في السبعينات وما قبلها وإبان سنوات القمع ما يشفع لنا بالمراهنة على ذلك. كذلك هو الحال مع مختلف المؤسسات الشبابية والطلابية والنسائية من جمعيات وأندية ومراكز شبابية وجمعيات مهنية وحقوقية وغيرها، والتي عليها مسؤوليات استثنائية هي الأخرى لا تقل جسامة عن مسؤوليات الجهات الرسمية، تفوق بكثير ما تقوم به الآن من أنشطة وفعاليات، خاصة إذا علمنا أن تلك الشرائح تمثل السواد الأعظم من شعب البحرين، ولكن تبقى مهمة التأسيس لوعي وطني مختلف وإيجابي لدى تلك الشرائح، بحيث تصبح قادرة على استقطاب واستيعاب شرائح لا تحدها حدود الطائفة أو الحزب أو التيار أو المذهب أو العشيرة كما يراد لهكذا وضع أن يسود راهناً. تلك إذا ليست نظرة مثالية, وإنما هي مطلب وهاجس شعبي وضرورة نضالية علينا مجتمعين وفرادى أن ندلل على التوجه نحوها مهما كانت وعورة الطريق وحجم المعوقات القائمة أو المنتظرة، وصولا لتحقيق حلمنا للعيش في مجتمع أكثر تلاحما وعدالة، وإن كنا نعتقد أن تحقيق ذلك لن يتم إلا عبر مزيد من الصبر والعمل والإصرار والتدرج وتحمل المسؤولية أدبيا وتاريخيا من قبل الجميع دون استثناء. كما أن مسؤولية الدولة في الدفع نحو تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص وحرصها وسعيها للوصول إلى مجتمع يتسم بالعدالة، تبقى محورية بكل تأكيد، ليبقى توجهها عمليا نحو ذلك فيما بعد معيارا موضوعيا على جديتها في هذا الاتجاه. وعلى مؤسسات المجتمع المدني أن تسعى بإصرار نحو الدفع نحو تحقيق ذلك بأسرع وأسلم الطرق الممكنة، وأن لا تسمح للقوى الطائفية والطارئة أو الدخيلة أن تقود المجتمع نحو حافة الهاوية عبر ما تطرحه من توجهات تفتيت ومشاريع تجزيئية كما يحدث في الوقت الراهن، ذلك هو التحدي الأهم أمام مؤسسات مجتمعنا المدني لتبرهن على تطور وعيها وأساليب عملها ونضوج رؤاها في إشادة مجتمع أكثر تسامحا وعدالة وانسجاماً بين كافة مكوناته وشرائحه.
الورقة التي قدمت في مؤتمر المواطنة وتكافؤ الفرص الذي انعقد في 21 فبراير الجاري بفندق الدبلومات.