كيف يمكن تطوير نقد تقدمي لأوضاعنا الاجتماعي والسياسية والثقافية والدينية، بينما مفهوم التقدم يعاني من أزمة عميقة؟ المسألة عملية قبل أن تكون نظرية. ذلك أن نقد أوضاعنا اليوم لا ينفتح على “مشروع” أو رؤية عامة جاذبة ومنشطة تجمع بين العلم والعدالة والتاريخ، أو بين المعرفة المتطورة ومصالح الأكثرية المحرومة وموافقة اتجاه التاريخ، على نحو ما كان يلبي مفهوم التقدم. لذلك تجدنا اليوم أما ننكفئ نحو أشكال سابقة من التقدمية (شيوعية، قومية عربية..) أو نمارس نقدا مفتتا لا ينضبط برؤية موحدة ولا مفعول تأسيسيا وتراكميا له..، هذا حين لا ننفض اليد من النقد تماما لمصلحة الامتثال للسلطة أو للدين أو للسوق (والتعارض بين الثلاثة ليس محتوما). لكن في الغالب حل مفهوم الهوية محل مفهوم التقدم، وغدا التطابق مع الذات قيمة عليا، بينما أخذ التقدم يلتبس بالاستلاب وبالخروج على “الثوابت”.
كان مفهوم التقدم تبهدل (تشوه شكله وتدنت سمعته) عالميا وعندنا، وأخذ يخرج من التداول منذ نحو جيل. أساسي في بهدلته في الغرب كوارث القرن العشرين، بما فيها حربان عالميتان قتلتا نحو 70 مليونا من الناس، وبما فيها الهولوكوست النازي (ومعلوم وزن مثقفين يهود في الثقافة العليا الغربية، وفي “التشريع” للعقل الغربي)، وبما فيها تحويل التقدم إلى إيديولوجية “تقدمية”، على يد الشيوعية السوفييتية وأشباهها، مع ما هو معلوم من أنها جمعت بين الطغيان والفشل الاقتصادي ومعاداة المعسكر الليبرالي الغربي (المهيمن الثقافي عالميا). بما فيها أيضا مشكلات البيئة وأثمان النمو الاقتصادي، وقد دخلت الاهتمام العام في سبعينات القرن العشرين، بدءا من الغرب. ثم إن تحولا في المناخات والحساسيات الفكرية في الغرب قبل نحو جيل سحب الثقة من “السرديات الكبرى”، ومنها التنوير والماركسية وفكرة التقدم ذاتها. وعلى هذا النحو ثبّت تحول الحساسيات تحولات واقعية كانت قلقة.
أما عندنا فقد كان التقدميون، من الصنف البعثي خاصة، مثالا غير محترم على العموم، جمع بين عنف يفوق ما مارسه “الرجعيين” قبلهم، ومع ثروات تزري بما كان تحصل لسابقيهم من “إقطاعيين” و”برجوازيين”، ومع فشل تام في تحقيق ما أعلنوه هم بالذات من أهداف قومية واجتماعية. هذا فضلا عن تأثرنا بالمناخ العالمي الذي التقت فيه معاداة الغرب للشيوعية مع فشل هذه الحقيقي.
كان مفهوم التقدم يدخل شيئا من النظام والنسقية على تفكير وعمل المثقفين والمناضلين العرب “من أجل عالم أفضل”، ويؤسس في كل مكان لمشروع مستقبلي منفتح على الكوني. فأيُّ عالم أفضل اليوم دون مفهوم يوحد العدالة والمعرفة والتاريخ؟ أحد وجوه مشكلاتنا السياسية والثقافية اليوم أن “الأفضل” بات بلا سند كوني وتاريخي. نحن مهددون في مثل هذا الحالة بأن يكون لكل منا أفضله. ثمة أفضل للإسلاميين ربما ينسب نفسه لنصوص مؤسسة وللأكثرية الدينية، وأفضل للعلمانيين والليبراليين ينسب نفسه للعلم والغرب المتقدم، وأفضل للشيوعيين ينسب نفسه للعدالة و”الجماهير الشعبية”..، لكن لا يبدو أن أحدا يثق أن المستقبل معه، أو أنه والتاريخ يسيران على درب واحد. الجمع بين الأفضل الأخلاقي والعلمي وبين المستقبل لم يعد متاحا.
لقد خسرنا مفهوما لا منافس له لشد أزر جهودنا الفكرية والسياسية المحتملة من أجل تغيير أوضاعنا. هذا شتت شمل عملنا وأضعف محصلته المحدودة أصلا.
لكن هل هناك أزمة أساسية فعلا في مفهوم التقدم ذاته على نحو ما ترى تيارات فكر ما بعد الحداثة الغربية؟ وهل يقتضي مفهوم التقدم حتما أسطورة التقدم، أي طوبى خلاصية تتحقق في نهاية تاريخ كوني ذي اتجاه واحد، لا يبالي بالمآسي الإنسانية، بل يقتضيها كوقود ضروري لسير “عجلة التاريخ”؟ ننحاز إلى فكرة أن مفهوم التقدم مفيد بقدر ما يكون أداة نقدية، وإن كنا غير مضطرين إلى التسليم بكون التقدم قانونا كونيا أو دستورا لتاريخ العالم على نحو ما ظهر في فلسفة هيغل. إن تصور التقدم كأداة نقدية هو ما يمكن أن يكون بديلا متماسكا عن جعله أسطورة عالمية متعالية على المجتمعات وتواريخها الواقعية، كما عن رده إلى بعد إجرائي محض، ربما يقاس بمتوسطات الدخول أو عدد السيارات أو ما شابه.
يبدو لنا التقدم مفهوما مفيدا لنقد شتى صنوف الانعزالية التاريخية والثقافية والسياسية، سواء اتخذت اسم القومية أو الأصالة الدينية أو الشيوعية. ومن ناحية أخرى ينطوي المفهوم من ذاكرته السابقة على انحياز إلى الضعفاء والمحرومين والمهمشين ضد أصحاب الثروة والسلطة والمؤسسات التي يقيمونها لحفظ سلطتهم وامتيازاتهم، وإن دون الإحالة إلى طوبى مساواتية ناجزة التصور. وبهذه الصفة هو مفيد أيضا لنقد القوى الدولية المسيطرة، وليس فقط لأصحاب السلطة والثروة في بلداننا. ثم إنه مفيد أيضا لنقد أو التحفظ على الأفكار والنظم الاجتماعية ذات الاستلهام الديني التي تميل إلى تجزئة وتفتيت العالم من جهة، وإلى فرض ما تراه صائبا بالقوة من جهة أخرى. ولعله بعد مناسب لنقد التشكلات الإيديولوجية والسياسية الحداثية السلطوية والمغلقة، مثل تنويعات شيوعية القرن العشرين، ومثل العلمانوية (العلمانية المطلقة) ومثل الليبرالية المطلقة أو الليبرالوية (أصولية السوق وعبادة الفرد والهوى الغربي). وربما أيضا لنقد تيارات ما بعد الحداثة نفسها التي تحمل بدورها تصورا مفتتا وتجزيئيا للعالم.
إن صح ما نقول فإن مفهوم التقدم يحتفظ بقيمة نقدية لكل ما هو مغلق وغير منصف، ويستبطن نزوعا عالميا، وإن كان لا يحيل إلى مشروع خلاصي ولا إلى نهاية ما للتاريخ. إننا نتوسله للاعتراض على تشكّلات سياسية واجتماعية وإيديولوجية قمعية ومغلقة، دون أن نحيل بالضرورة على بديل جاهز ونهائي.
هل هذا ممكن؟ مفهوم غير عالمي، مردود إلى أداة نقدية، لا يطل على طوبى انعتاق نهائي؟ يمكن أن نجادل كثيرا في ذلك. لكن لا نرى فرصة لإنقاذ مفهوم التقدم دون تحويله من أسطورة عالمية إلى أداة نقدية. ولا نرى بديلا عن المفهوم ذاته الذي تلتقي فيه مدركات الأخلاق والتاريخ والمعرفة والعالم.
الحوار المتمدن 24 فبراير 2009