منذ فتح أبناء جيلي أعينهم على الحياة، وهم يسمعون الوعود بتحويل البحرين إلى “سنغافورة الخليج”.
كبرنا ورأينا رويداً رويداًً كيف تحوّلت بلدنا إلى بحرين أخرى، ولكنها لم تتحوّل حتماً إلى سنغافورة. هناك جوانب إيجابية كثيرة نفخر بها كبحرينيين، من القضاء على الأمية وتحسين المستوى الصحي والتوسع العمراني… والأهم روح الإخاء والتعايش والتسامح الذي ورثناه من الآباء.
الآن… وبعد ثلاثة عقود من الاستقلال، وثماني سنوات من الإصلاح، يجتمع مئة وخمسون من النخبة المثقفة، من تيارات فكرية وسياسية متنوعة، بينهم نواب ووزراء سابقون، ليناقشوا مبدأ «تكافؤ الفرص»، باعتباره الطريق الطبيعي نحو إعادة الاعتبار لقيم المواطنة الحقّة، بعيداً عن الاستزلام السياسي، والتمييز المذهبي والعرقي والمناطقي الذي أصبح آفةً ينخر في العظام ويأخذ البلد بعيداً عن بر الأمان.
المؤتمر ناقش ست أوراق عمل، مختلفة المشارب الفكرية، إلا أنها كانت تتفق جميعاً على تشخيص الداء، وتدعو لعلاجه قبل أن يفتك بالجسم ويسمّم البدن.
المؤتمر الذي قرع الجرس لم يحظ بتغطية التلفزيون الرسمي، والمتابعون من القرّاء اطلعوا على أوراق ومناقشات المؤتمر من خلال الصحف، التي تباينت في اهتمامها بإبرازه، بين من أفردت له صفحة أو أربع صفحات، ومن أبعدته إلى صفحة هامشية، أو اختزلته في خبرٍ صغيرٍ من عشرة أسطر.
آخر أوراق المؤتمر… عرضتها «جمعية الإخاء الوطني» بعنوان «المواطنة وتكافؤ الفرص… تجارب دولية ناجحة»، قدّمتها زهراء مرادي، التي استهلتها بكلمة لإبراهام لنكولن يقول فيها: «لا يجوز لأي شخص أن يطمح في أن يكون أكثر من مواطن، وألاّ يرضى على أي شخص أن يكون أقل من ذلك».
المواطنة تقوم على جملة من المبادئ، من أهمها العدالة (السياسية والاجتماعية والاقتصادية)، والحرية والمساواة وتكافؤ الفرص. والمواطن الذي يشعر بالتمييز والتهميش والقهر الديني يكون أمام خيارين: إما التبرم والرفض، وإما الانكفاء والكفر بالوطن. من هنا لا تتفق المواطنة مع الانغلاق على الفئة أو العشيرة أو الحزب أو الطائفة، بل تعني الانفتاح على كل الأطياف في الوطن.
وتستعرض الورقة ثلاث تجارب بشرية: انتخاب أوباما في أميركا، وحقوق المرأة في المغرب، وصناعة المواطنة في التجربة السنغافورية، وهي التجربة التي تستحق الوقوف عندها لأننا كنا مبشّرين باقتفاء أثرها منذ ثلاثة عقود، فارتفعت هي إلى القمة، بينما تقهقرنا إلى هذا القاع السحيق من التجاذب الطائفي والاحتقان السياسي الذي لا نعرف كيفية الخروج منه!
سنغافورة ظهرت كميناء صغير في القرن 19، وخضعت للاستعمار البريطاني حتى استقلت في 1957، واتحدت بعد عامين مع ماليزيا، لتعود وتنفصل عنها في 65، فعمرها لا يتجاوز نصف قرن، وتعدادها 4 ملايين، 80 في المئة منهم صينيون، والبقية مالايو وهنود وأعراق أخرى. ونجح بناة الدولة في تحويل هذا الميناء المنسي الصغير إلى مركز مالي عالمي، ومجتمع آمن مستقر، قوامه الإنسان الكريم. ونجح هذا المجتمع المتعدّد الأعراق والأديان والثقافات، في المحافظة على هويته الثقافية المتنوعة مع صناعة المواطنة الحقّة.
مفتاح التجربة تعزيز مفهوم المواطنة والوحدة الوطنية وبناء الإنسان وتجديد مناهج التعليم باستمرار. وبذلك تفوقت في مؤشرات التنمية المستدامة والشفافية والتنافسية، فضلاً عن مؤشرات الإدارة الرشيدة الستة: المشاركة السياسية، المساءلة، الاستقرار السياسي، فعالية الحكومة، سيادة القانون ومحاربة الفساد. كل ذلك اعتماداً على الاستثمار في العنصر البشري والثقة بالمواطن؛ واعتماد الكفاءة وتطبيق مبدأ تكافؤ الفرص عبر لجان نزيهة تخضع للمراقبة؛ وعدم فرض لغة أو ثقافة معينة على حساب أخرى في مجتمع تعدّدي؛ وإشراك الجميع في مسئولية حماية الوطن.
حتى سياسة التجنيس في سنغافورة قامت على المكاشفة والشفافية بشأن آلياته وشروطه، والكلّ يعرف عدد من يتم تجنيسهم سنوياً، ولا يفاجأون بزيادة ربع مليون نسمة خلال 3 سنوات، فتتعرّض البنية التحتية الصحية والتعليمية والإسكانية والخدمية لضغوط تنهك اقتصاد البلد وتهدّد مستقبل أجياله.
نجحت سنغافورة لأنها أقامت نظامها على احترام الإنسان وتكريم العلم وتوازن الحقوق والواجبات… بينما نواجه اليوم وضعاً متشظياً طائفياً، محتقناً سياسياً، تتآكل فيه الأحلام حتى أصبحنا نحنّ إلى رائحة التعايش والتوافق والتسامح والوئام… حتى تقلّص طموحنا لئلا نكون أقلّ من درجة مواطن في هذا الوطن!
الوسط 24 فبراير 2009