سيلعب حزب مجاهدي الشعب شكلاً آخر من العدمية الدينية والدكتاتورية، فقد كان منافساً لدوداً لحزب الشعب (تودة)، ومزايداً على طريقه النضالي، فاعتمد طريق المغامرات والارهاب، وقد عزز دائماً قبضات الحكومات على الحياة السياسية الشمولية، سواء في زمن الشاه أم في الزمن التالي. لقد قدم خدمات ثمينة لقوى العسكر والمخابرات المتصاعدة المهيمنة على النظام الديني الشمولي فأعطاها الحجج لتوسيع الأجهزة العسكرية التي ما لبثت أن هيمنت على الحياة السياسية الإيرانية ذات الجذور المحدودة في الديمقراطية. كان النظام بحاجة إلى مثل هذا التنظيم لتبرير قمعه المتصاعد لقوى اليسار، وللخلط المتعمد بين اليسار السلمي واليسار الارهابي.
لقد كان الإقطاعُ الديني في التهامه الخيرات الاقتصادية من قبل العسكريين والموظفين الكبار، مرتعباً من قوى الشعب الثورية التي قامت بمأثرةٍ كبرى، ولهذا فإن قمعَهُ سوف يتسع لقوى اليسار والليبرالية، لمنع كشف حساب سرقاته وإنشاء دولته العسكرية الكبيرة. لقد حاول اليسارُ السلمي مداهنة النظام من دون جدوى، وقد حولها النظام إلى صراع الإيمان مع الكفر، لا صراع اللصوص مع التعرية الاجتماعية، هنا تأتي الجذورُ الخربة لليسار العدمي تجاه الدين لتسهم في عملية ذبح اليسار السلمي الذي رفع مثل هذه المومياوات القادمة من كهوف الإقطاع إلى مسرح التاريخ المعاصر لتتحول إلى دراكولات تلتهمُ الأخضرَ واليابسَ من لحم الناس. وكان خراب مجاهدي خلق أكبر فقد اعتمد على ما هو دموي في التاريخ، وحوله إلى سياسة، فرجوي هو إمام غيبي له مطلق الصلاحية في استصدار الأوامر بقتل البشر، فبدا ذلك كأنه ثنائية المجوس القديمة بين إله الخير وإله الشر، فالإلهان يتقاتلان وكل منهما يدمرُ الآخر، ولا مسرح ديمقراطيا يضعُ حداً لقراراتهما الرهيبة. وهذا من الممكن أن يكون مادة مهمة لصعود فاشية عسكرية تنقل مثل الإلهام الشيطاني لخارج الحدود. وهذه العقلية الثنائية، غير الجدلية، غير التركيبية، لا تقبل إلا بالنور أو بالظلام. إما نحن، وإما الدمار، إلا بالذات القومية الدينية المرفوعة كإله معبود وحيد، وزوال الأمم الأخرى والأفكار (الدخيلة). ومن هنا فإن الرئيس خاتمي حاول أن يلغي هذه الثنائيات المتضادة بشكل كلي، من داخل العقلية الدينية وباتجاه الانفتاح النسبي المحدود على الآخر، وعلى الأفكار الإنسانية. والغريب هنا أن نجد أن الأفكار الامامية حتى في العصور القديمة كانت هي السباقة للحوار والاستفادة من الأفكار الإنسانية، ولكن عملية تجميد الاثني عشرية من قبل الإقطاع الديني، كانت نتيجة الغزوات الرهيبة للأمم الأخرى داخل إيران من عرب ومغول وافغان، حتى تخلق الوحدة الحديدية للأمة الفارسية الصاعدة بين كل هذه الاقتحامات، لكن الطبقة البيروقراطية العسكرية الدينية المعاصرة وسعت مثل هذا الخوف ووظفته لمصالحها ولعدم وجود رقابة شعبية ولعدم حدوث انفصال من قبل الشعوب المحكومة من قبلها. ومن هنا كان سقوط القوتين المعارضتين الكبريين: تودة وخلق، ومن قبلهما الليبرالية، قد جعل الساحة خالية إلا من التوالد داخل النسيج الديني الشمولي ذاك. لقد أدى القمع الواسع واستخدام الفقراء المتعصبين ضد الحرية والتنوير وإنشاء أجهزة ومنظمات للرعاية ولدعم عائلات القتلى واستمرار استعمال المنظمات الدينية المتجذرة خلال قرون، إلى صعوبة نشوء معارضة جماهيرية، إلا من بعض الكتل المثقفة العاجزة عن إنشاء منابر فكرية علنية، ومن هنا نجد ان الشعب الإيراني هو أكثر الشعوب التي تنطق بشكل حر لكن من الخارج، فهناك «ما يزيد على خمسين محطة إذاعية وتلفاز متصلة بالمعارضة في المنفى وتبث برامجها بالفارسية«، (فرج سكروهي، مأزق المعارضة الإيرانية، موقع قنطرة حوار مع العالم الإسلامي). والمعارضات النخبوية كثيرة في إيران وخارجها، فلاتزال القوى اليسارية القديمة موجودة، واستعادت المعارضة الليبرالية بعض حضورها، وظهرت المعارضة الملكية، وتوجهت قوى كبيرة لمساندة الإصلاحيين داخل النظام لأهداف شتى. لكن تظل إيران – رغم التطور الصناعي الكبير فيها – أنها لم تقم بثورة ديمقراطية اجتماعية، أي أن مسائل حريات الفلاحين والنساء وتفكيك الهيمنة العتيقة على القرية والأسرة الأولية في كل تطور حديث نسبي لم تقم بها، فحشود القرويين الخانعين في ظلام العصور الوسطى لايزال يخيم على هؤلاء الفقراء المستغلين بضراوة، الذين يؤيدون كذلك الوعي الديني التقليدي الذي لا يفهمونه بعمق، بطبيعة عيشهم، وهم سيطروا على أحياء المدن الكبيرة، في حين ان النخب من الفئات الوسطى لا تمتلك لا الفهم الشرعي ولا الفهم النضالي العصري لإقامة علاقة بهؤلاء، مثلهم مثل عمال الصناعات البسطاء كذلك، ومادامت هناك إمكانيات للعيش فسوف يستمرون في سلبيتهم السياسية، لكن إمكانيات العيش هذه تتضاءل، وتضخم الأجهزة البيروقراطية والعسكرية يلتهم الموارد، والتناقض بين هذا الجمهور وتلك الأجهزة يزداد. إن نهج المغامرات السياسية والعسكرية يؤجج مثل هذه المعارضة الشعبية باتجاه الانفجار الفوضوي، في حين ان نهج التطور السلمي والحريات وتحجيم العسكرة يقوم بترتيب وضع بديل عقلاني متدرج يمنع إيران من الانزلاق لسيناريوهات المغامرين العسكريين التي يبدو حلم القنبلة النووية تتويجا لها، وربما هو كذلك لحظة الكابوس فيها. إن ذلك يتطلب من القوى الحديثة الديمقراطية فهم الإرث الإسلامي ونقد الإقطاع من خلاله، ومن خلال مواد الحياة العصرية وإمكانياتها الفكرية والتوجه لمهمات التحول الديمقراطي الأولية، أي تجميع القوى السياسية كافة لتحقيق مهمات مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية، بما يغير حياة الملايين من الفلاحين، والنساء، والفقراء، فهؤلاء هم المخزن الرئيسي للإقطاع، وهم أداة تغييره كذلك، وبضرورة إعادة اكتشاف الإرث الديني للأئمة المناضلين ولسيرورة إيران المعقدة القومية، عبر التراكم وليس عبر القفزات والمغامرات.
صحيفة اخبار الخليج
24 فبراير 2009