المنشور

إلى أي مدى ينبغي علينا أن نتألم؟!

سيطرت حالة الانفعال والغضب أثناء الأسابيع الثلاثة التي شنتها الآلة العسكرية الوحشية على غزة «والتي أنتجت منها مشاهد هزت ضمير العالم» فهل كانت تلك الحالة الانفعالية الداخلية للإنسان والمتفجرة بشتى أشكال التعبير من الممكن أن تنبع بنفس الدرجة فيما لو كنا ننتمي لزمن الحرب العالمية الأولى والثانية «والتي أورثت خلفها خمسين مليون قتيل وأكثر من مائة مليون جريح ؟ اعتقد إن الإجابة ستكون بالنفي» إذ يحتاج الناس العاديين وغير العاديين إلى مؤثرات انفعالية تدفعهم وتشحنهم لذلك الغضب والانفعال «خاصة وان غياب الوعي يشكل عنصرا أساسيا لتهيئة تلك الحالة . من هنا برهنت الأداة الإعلامية المعاصرة كالقنوات الفضائية كقوة جديدة مهمة في تهيئة الرأي العام والهيمنة على مشاعره» وهي قادرة في أجواء من هذا النوع على صنع فكرة الألم والانفعال والتوريط والدفع في الاتجاه الذي ترغب وتحريك الانفعالات بالدرجة المطلوبة .
وبالنتيجة في كل الحالات أنها تصنع إنسان هذا العصر بالشكل الذي ترغبه انفعاليا هذا إذا ما عرفنا إن الإنسان العادي في الشارع مهيأ نفسيا لعملية الدفع واستخراج حالته الانفعالية المخزنة . ولولا تلك المشاهد «الصورية»لما كان بإمكان المذياع أن ينتج تلك القوة العنيفة من الاندفاع الغاضب . وإذا ما أدركنا إن الملايين العادية من الناس تحركها العفوية «والغريزة السياسية» المرتبطة بها تلك اللحظة فبدون المشهد لا تستثير تلك الصور غريزة الإنسان المعاصر الذي بات إلى حد كبير مرهون بالصورة طبقا للدراسات التي قالت لنا عن حجم سيطرة التلفاز على أطفالنا والساعات الطويلة التي يجلسون فيها أمامه .
ويبدو إن العقد الأخير من القرن المنصرم والعقدين أللاحقين من الألفية الثالثة وفرت للمجتمع تلك الأجهزة الرخيصة من أدوات الاتصال وساهمت في صنع وسائل الاستقبال ( الانتينا) التي وجدناها في العالم النامي تغطي بيوتا متراصة فقيرة من الصفيح تعيش على درجة عالية من الكفاف «غير أن تملكها لتلك الوسائل باتت ليست «معجزة أو مستحيلة وإنما ضرورية كالخبز». نتفق عن إن الثورة أو الموجة الثالثة للثورة للمعلوماتية» ولكن ما لن نوافق عليه قدرة تلك الثورة على حماية ذاتها من تناقضات الثورة . والسؤال الأهم لتلك الثورة المقنعة بكل أشكال اللعبة والتضليل لفن التسويق «ليس للسلعة وحدها – وهي مركز الهدف من هذه الثورة – بل وبصنع عالم متزايد من الفقراء والفقر تعبث بهم سلسلة من الأفكار المصنوعة في المختبرات السياسية العليا للذين تحولوا بحد ذاتهم أدوات منفذة رخيصة لأثرياء العالم الجدد «وإلا وجدوا أنفسهم في طابور العاطلين» فقد وفرت هذه الحقبة بدائل عنهم تنتظر دورها».
في ظل هذا التشكل العالمي الجديد للثقافة والإنسان «كيف يتم تدمير إنسانية الإنسان» ومن ضمنها شعوره وتضامنه مع حجم الألم العالمي والإنساني؟ والى أي مدى ينبغي علينا أن نتألم من كل مشهد يغطي أرجاء العالم ؟ وكيف بإمكاننا أن نشوش وندمر مخيلتنا الإنسانية المفرطة بالحساسية حول كل ما هو إنساني وجميل ونبيل ؟ هل مطلوب منا أن نغض الطرف عن هؤلاء الذين باتوا بؤساء العالم ويموتون من الفقر والجوع وأن لا نتألم لأطفال وأبرياء يسقطون تحت القنابل أو لعالم ليس بالضرورة أن يدخل حربا. هل مطلوب من وعينا الإنساني أن يقفل غرفته ويعيش وحيدا في ظلام داكن ؟ وإذا ما أصبحت ثقافتك عالمية وإنسانيتك ليست محصورة بالجغرافيا «فكيف بإمكانك أن ترى الفجيعة الإنسانية – تتجاوز غزة» وليس الدين أو القومية وحدهما من يحرك مشاعرنا ؟ هل بإمكانك أن تنام بكل سهولة وقلقك الكوني صار مهتما بالبيئة التي ستتركها ملوثة كإرث لأحفادك فليس رصيدهم المصرفي وكل سبل العيش سيمنعهم يوما من زلزال وطوفان وحرائق «فعندما يغضب كوننا الخارجي لن يكون لديه قائمة من يختاره» ويصنف لحظتها العالم والناس وفق أجندة دينية وقومية وأممية «أنها اللحظة التي يكتشف فيها الإنسان إنسانيته» ويجد نفسه مجبرا على الانجرار نحو التعاطف الإنساني.
ما صنع فكرة الصليب الأحمر خلال الحرب «هو أنها بحثت عن تلك الفكرة التي نناقشها وهو إلى أي مدى ينبغي علينا أن نتألم؟ ربما تلك النافذة القصوى من الألم يدركها الآن من لديهم عائلات وأشخاص يعانون بقلب مكتوم حالة أعزاء باحتياجات خاصة. وإذا ما اهتم الناس بمشهد سياسي وإعلامي في حرب غزة» فان المخيلة الإنسانية تقتضينا بأن هناك حالة أعمق وأكثر ألما لكل أولئك الذين فقدوا أعزاء في المحنة وتحول الجرحى والمصابين بعاهات أبدية كمشهد يومي للألم الإنساني حتى وان انتهى لصوص الفساد من سرقة نصيبهم من مشاريع الإعمار في غزة.

صحيفة الايام
24 فبراير 2009