تحدثنا الأسبوع الماضي عن التطور الحلزوني للنظام الذي ولدته الثورة الإيرانية. وعلى مدى الثلاثين عاما الماضية استمر هذا النظام في التطور الذي لايزال في حدود توسيع أو تضييق الأطر التي تسمح بها الحدود المرسومة من قبل مرشد الثورة. وفي عهد الرئيس أحمدي نجاد تميزت حلقة التطور بسعي النخبة، بهدف الاستمرار بالإمساك بالأمور لصالحها، لعدم السماح بمضي الاتجاه القيمي للتطور بخط مستقيم، متصل وصعودي في النواحي السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بينما ارتقت البلاد إلى مستويات عالية من التطور التكنولوجي الذي وجد تعبيره في البرنامج النووي الإيراني وبناء القدرات العسكرية الذاتية الكبيرة وفي إطلاق أول قمر صناعي حول الأرض احتفالا بثلاثينية الثورة. وفي هذا كمن التناقض الداخلي لتطور الثورة الإسلامية في هذه المرحلة.
الآن تقف إيران على أعتاب انتخابات رئاسية جديدة ستجري في 12 يونيو/ حزيران المقبل. فإما أن تعمق نتيجتها هذا التناقض وإما أن تسمح بوصل بين ما تحقق على المستوى التقني العلمي وما يجب أن يتحقق على أساسه من تحولات في المجتمع. ذلك سيعتمد على من سيفوز.
انشغال الإيرانيين بموسم عاشوراء والتظاهرات ضد العدوان الإسرائيلي على غزة ومساعي تشكيل جبهة إسلامية ضد إسرائيل جميعها صرفت، إلى حد ملحوظ، أنظار الرأي العام والإعلام عن القضايا السياسية الداخلية المرتبطة بالانتخابات الرئاسية. أما من وراء الكواليس، في اللقاءات الشخصية والمناسبات العائلية وحفلات الزواج وبعدها في مجالس العزاء الحسينية كانت المشاورات وجهود التنسيق حول المرشحين للانتخابات الرئاسية تجري بنشاط.
بقي القليل قبل البدء الرسمي لتسجيل مرشحي الانتخابات الرئاسية. ومع ذلك فقد تأخر جناحا المحافظين والإصلاحيين في تقديم مرشح موحد لكل منهما للانتخابات. وهذا يدل على وجود تعقيدات كثيرة في داخل كل طرف. العمليات الجارية في أوساط المحافظين في الأسابيع الأخيرة تبين التفاف كثير من القوى الرئيسية حول شخص أحمدي نجاد. بينما قبل شهر واحد فقط كان نجاد لا يجد تأييدا سوى في أوساط مؤسسة ‘ريحيه خوش خدمت’، أما باقي الاتجاهات – المحافظون البراغماتيون وحتى التقليديون فكانوا يهاجمونه بشدة ويحاولون إيجاد مرشحين بدائل عنه، حيث جرت تسمية 10 – 21 من السياسيين المعروفين ضمن تحالفات محافظة مختلفة كالمكتب المؤتلف (م. رضائي) وحكومة الوحدة الوطنية (ناتج نوري، رفسنجاني، روحاني) وغيرهما. ولحسم الأمور في داخل معسكر المحافظين لصالح أحمدي نجاد أعرب مرشد الثورة خامنئي بشكل غير مباشر عن دعمه له في كلمة ألقاها في جامعة العلوم والصناعة. وفي الوقت ذاته رمى ببعض التلميحات لغير صالح خاتمي قبل أن يلتقيا فيما بعد. وكذلك فعل قادة الحرس الثوري والباسيج. غير أن ذلك لم يمنع عددا من كبار رجال الدين في قم من أن يعربوا بشكل مكشوف عن موقفهم السلبي تجاه نجاد ومناصريه.
ورغم بعض التوقعات بأنه لو أجريت الانتخابات هذه الأيام لفاز نجاد بلا منازع، إلا أن مؤشرات تطورات الأوضاع تشير إلى تدني سمعته السياسية بسبب الأزمة الضاربة. مدير معهد التكنولوجيات السياسية في موسكو أ. ماكاركين يرى أن الأزمة المالية العالمية قد أصابت الاقتصاد الإيراني بأكثر مما أصابت روسيا، حيث إن إيران تعتمد بشدة على عائدات النفط التي انخفضت أسعارها دراميا خلال نصف العام الأخير. كما أن السياسة غير الرشيدة التي اتبعتها حكومة نجاد في مجال الاقتصاد الجزئي أدت إلى ارتفاع البطالة والتضخم إلى مستويات جدية. وللتغطية لم يكن لدى نجاد سوى تأجيج الخطاب السياسي داخليا وخارجيا. وقد جاء التفاف كثير من المحافظين حوله بداعي قلقهم وتحشدهم لمواجهة احتمال ترشح خاتمي. أما تأخر خاتمي عن ترشيح نفسه فيعود إلى التأجيلات المتكررة للقاء الذي كان ينتظره مع المرشد الأعلى الذي تم في 16 يناير/ كانون الثاني فقط. ورغم كل التعتيم الإعلامي حول ذلك اللقاء، إلا أن صحيفة ‘كيهان’ وحدها نشرت في 18 يناير/ كانون الثاني خبرا بأن القائد أكد موقفه الحيادي في مسألة الانتخابات الرئاسية.
وبمجرد أن أعلن خاتمي نيته ترشيح نفسه حتى اتضح أن دائرة مؤيديه ستكون ليس من غالبية الإصلاحيين فقط، وإنما المجاميع المستقلة المعتدلة أيضا. وقد يجد دعما بين المحافظين البراغماتيين. وكان مرشحان من معسكر الأصوليين (م.ب. غاليباف وم. بورمحمدي) قد أرسلا إشارات عن استعدادهما لعدم الترشح دعما لخاتمي. وبدأت تتسرب الأخبار عن دعم لخاتمي من بعض أنصار رفسنجاني الذين ظهرت خلافاتهم مع نجاد للعلن.
التأخير المستمر في إعلان خاتمي نيته الترشح والدعاية النشطة الموجهة من قبل الرئيس الحالي للنيل من سمعة حركته ‘الثاني من خورداد’ كل ذلك ساهم في خلخلة الاستقرار في صفوف الإصلاحيين وقلص من عدد أنصارهم. لكن ما أن قطع خاتمي الشك باليقين وأعلن بالفعل رغبته في الترشح بعد لقائه بخامنئي حتى شرعت إدارة عملياته في إعداد برنامج التحولات الاقتصادية في البلاد. وبدأ خاتمي يخطف الأضواء.
السيد محمد خاتمي كان رئيس إيران لدورتين. وبسبب الإصلاحات التي أجراها أو وعد بها في ذلك الوقت أطلق عليه ‘غورباتشوف إيران’. وفي آخر فترة حكمه أصبح هدفا لسهام النقد من على يساره ويمينه. بعض أنصاره رأوا فيه متهاونا وغير ثابت على طريق الإصلاحات السياسية. أما خصومه من المحافظين، فعلى العكس، اتهموه بالتواطؤ، وحتى العمالة، مع الغرب. التناقضات بين ما أعلنه وحققه خاتمي أفضت إلى نتيجة لم تكن متوقعة بفوز رئيس بلدية طهران حينها أحمدي نجاد، الذي أتى على ما استطاع خاتمي إنجازه. وولدت إحباطا وعزوفا لدى أوساط واسعة من ‘الليبراليين’ الذين عزفوا عن الاشتراك في العمليات السياسية في طهران خصوصا. وبسبب ذلك حصد المحافظون كل مقاعد البرلمان الثلاثين عن العاصمة طهران، في حين فاز بعضهم بـ 12% من أصوات الناخبين فقط. فهل ستفضي تناقضات فترة نجاد إلى فوز خاتمي ويتحقق الصعود إلى حلقة أخرى من التطور هذه المرة؟ إلى جانب من سيرمي مرشد الثورة بثقله في نهاية المطاف؟ عندها ستقول ‘الديمقراطية الموجهة’ كلمتها الفصل. وقد يكشف خاتم خاتمي عن عجائب صندوق الانتخابات الرئاسية في إيران.
صحيفة الوقت
23 فبراير 2009