كما كان الشاه هو رمز النظام الإقطاعي الملكي السابق كان حزب الشعب الإيراني (توده) رمز هذا النظام على المستوى الشعبي.
إن مقاومة هذا الحزب للنظام الملكي هي طويلة ومليئة بالتضحيات الكبيرة ومريرة وفاشلة كذلك، لعدم وجود رؤية صائبة لديه.
إن تبعية حزب الشعب للإقطاع، تبدو هنا متناقضة وغريبة، فقد كان ينادي بإجراءات ديمقراطية مهمة، وكان مؤيداً لعمليات إصلاح زراعية واقتصادية ولتحرير إيران من الاستعمار الغربي وكان يعتبرُ نفسه ممثلاً للطبقة العاملة.
كان حزب الشعب مثل بقية الأحزاب الشيوعية في المنطقة ينقلُ الأفكارَ السوفيتية، وكان الاتحاد السوفيتي نظامٌ يتجهُ لأزمةٍ عميقة، عبر تضخم آلة الدولة والبيروقراطية وغياب الحريات والتفكير النقدي، وكان هذا نموذجاً لدى الأحزاب الشيوعية، لا يقبلُ النقد كذلك، وبالتالي كان لا يجري نقد هذا النموذج الدكتاتوري، ويجري اعتباره مقدساً وقدوة صالحة للتطبيق في الأقطار الأخرى، وكانت إيران تتمتع بميزة خاصة في عملية النقل هذه، فهي متاخمة جغرافياً للاتحاد السوفيتي وقد شهدت انتفاضات عمالية سياسية مجاورة للحدود وتعرضت هذه الانتفاضات لهزائم ومذابح وتـُركت من دون مساعدة أممية.
وبسبب ذلك تعرض حزب الشعب لقمعٍ طويل وعنيف ووحشي من قبل نظام الشاه، وتعرضَ التنظيم للضعف والتحجر السياسي، وتغلغلتْ فيه البيروقراطية، فلم يعدْ قادراً على الإنتاج الفكري الخلاق، وتقلصتْ جماهيرهُ الباقية على إثر ذلك، والبقية منها مضى يجاورُ جمهورَ الإقطاع الديني المتوسع بشكلٍ كبيرٍ في المدن، الذي جعلَ المظلة الدينية والعبادات الدينية الحاشدة والنامية شكلَ مقاومتهِ ضد نظام الشاه القامع لكل الأحزاب.
وبهذا فإن حزبَ الشعب فقدَ فكرَ الماركسية النقدي والعلماني على جانبين، جانب القيادة المروجة لأفكار الدكتاتورية السوفيتية، وجانب جماهيره الملتصقة بجمهور الإقطاع الديني، وراحتْ تتسربُ إليه فتفقدُ تميزَهَا عبر مراحل.
يقومُ وعي الدكتاتوريةِ السوفيتية على الإلحاد العدمي، أي هو منهجٌ غيرُ جدلي، يُلغي الأديانَ بتعسفٍ بيروقراطي، ويلغي كذلك تاريخَ الجمهورَ الديني وصوته السياسي ويلحقهُ بآلتهِ الشمولية، وعبرَ قرارات القيادات يجري كل شيء.
والالحاد العدمي مثل الإيمان الجامد كلاهما حفاظ على البنية العتيقة المتخلفة للأديان كما تحكمت بها وشكلتها القوى الإقطاعية خلال قرون، أي يجري الحفاظ على طبيعة السلطة المتعالية للدولة ولرب العائلة وعدم تطورهما الديمقراطي. يجري هذا في الدولة والحزب والعائلة كنسيج واحد.
عبر نقلِ مثل هذه الأدلجة البيروقراطية المزعومة كماركسيةٍ، يُهمشُ تاريخُ الإسلام، ويغدو ذلك خاصة عبرَ عمليةِ النقلِ من بلدٍ مسيحي (أرذوكسي)، إلى بلدٍ مسلم شيعي، ملغىً وخارج الاعتبار السياسي، فتحدثُ عملية إلحادٍ عدمية، وبهذا فإن الحزبَ يتهمشُ، ويغدو عاجزاً عن التغلغل بين الجمهور المؤمن، فهو مقموعٌ ويخرجُ نفسَهُ كذلك من التاريخ الديني – الشعبي وإمكانيات تحوله السياسية.
ولا يغدو له ثمة دين إسلامي بل المذهب السائد، فقد تمازج مع الدولة المذهبية وسيادتها الطبقية الاستغلالية، فيندمجُ في شعائرِها، ويركزُ على اقتطاع شعاراتٍ سياسية من المذهب السائد، كدليلٍ على تقدميته، وهذا يقوده إلى الذيلية للإقطاع الديني.
وعلى المستوى السياسي العام تغدو شعاراته مقبولة من قبل الجمهور المضطـهد، فهي ضد دكتاتورية الشاه ومن أجل العدالة وترقية الشعب، ولكنه لا يوسع شعبيته الخاصة، لا يطرحُ فكراً مقبولاً متوسعاً ومتجذراً بشكل مستمر، لأنه غاب عن الفكر، عن إنتاج وعي وطني إيراني ديمقراطي – إسلامي – علماني، ليرتكزَ على جذوره الدينية والإنسانية، ويواجه الإقطاعين السياسي والديني كذلك في مركبٍ واحد.
لقد صار حزباً سياسياً تكتيكياً تقود خطاه الأيامُ العفويةُ والحركة الظاهرة وسذاجة الشعب، فيتذيلُ في خاتمة المطاف للإقطاع المذهبي المحافظ. لا يستثمر العناصر النضالية في هذا المذهب لابعاد الإقطاع عن احتوائه.
ولهذا نجد حزب الشعب في أثناء الثورة الشعبية فقد قدرته على التحليل والتبصر:
(في ظل هذا الوضع كان الانشغال الرئيسي للحزب الشيوعي هو الجري وراء القوى الدينية الرجعية وآية الله لطلب إقامة نوع من “الجمهورية الإسلامية الديمقراطية”، المصدر السابق).
إن عدم النضال منذ البداية من أجل طريق رأسمالي ديمقراطي علماني، يتماثلُ مع عداوة البيروقراطية السوفيتية للديمقراطية ورفضها للتطور الحقيقي، وتموه ذلك بالنضالِ المزعوم من أجل الاشتراكية، ولهذا فإن حزب توده لا يُعبدُ الطريقَ لنضالٍ ديمقراطي واسع النطاق ضد حكم الشاه، بل ينزلقُ تدريجياً للاصطفافِ مع القوى الدكتاتورية الدينية.
هذا الانزلاقُ سيكونُ عبر شعار الجمهورية الإسلامية، وهي ليست جمهورية إسلامية بل مزارع جديدة للإقطاع الديني، ولدكتاتورية جديدة أسوأ من دكتاتورية الشاه، وأكثر دموية، وتعمقُ الارهابَ على نحو هائل، وتغدو شمولية متدخلة في البيوت والعقول، ويغدو بعضُ انفتاح الشاه حلماً!
كان هذا التأييدُ الانتحاري ثمناً لانهيارِ العقلِ اليساري المستقل على المستويين العالمي والوطني، وهذا ليس في إيران فحسب بل في المنطقة عموماً، لقد تكشف فقر هذا (اليسار) الفكري خاصة في تسارع الأحداث وعدم الالتقاط الدقيق لشعيرات التطور مما ساهم في تغذية كوارث جماعية وسياسية جغرافية واسعة.
لقد قاد ذلك إلى قمع هائل للقوى السياسية الإيرانية ووصل هذا إلى استنزاف كبير ودموي للقوى التقنية والاجتماعية المستنيرة ليتشكل طوفان الهجرة للخارج ولتتفجر الحروب والتدخلات ويتمزق العالم الإسلامي.
كان هذا هو ثمن (الثورة الإسلامية) الفادح، نتيجة أعمال القوى السياسية الحكومية الملكية والدينية واليسارية، مجتمعة، ومتصارِعة، لتوجد من إيران في النهاية قنبلة كبرى في المنطقة قد تنفجر في أي لحظة بالمزيد من الكوارث!
صحيفة اخبار الخليج
23 فبراير 2009