حتى صندوق النقد الدولي الذي ظهر قزماً أمام عِظَم وهول الأزمة المالية/الاقتصادية التي ضربت الاقتصاد العالمي في الربع الأخير من العام الماضي، غير قادر على تشخيص وتقييم عمق الأزمة، فهو قدم قبل شهرين تقييماً لأداء الاقتصاد العالمي خلال عام ,2009 وإذا به اليوم يعيد النظر في تقييمه بعد أن اكتشف أن الأزمة أعمق من توقعاته.
فبعد أن توقع في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي انخفاض نمو الاقتصاد العالمي إلى 2,2٪ (مقابل 4٪ في العام الماضي)، ها هو يوم الأربعاء 28 يناير (كانون الثاني) 2009 يعيد النظر في تقييمه ويتوقع نمو الاقتصاد العالمي بنسبة نصف في المائة فقط.
والسبب، حسبما هو ظاهر، أن خبراء الصندوق قد قللوا من الآثار العميقة للأزمة على الاقتصاد الحقيقي في كل من الولايات المتحدة وبلدان منطقة اليورو وبريطانيا واليابان، حيث اتضح لهم فيما بعد أن حجم الأزمة يمكن أن يتسبب في تراجع نمو الاقتصاد الأمريكي بواقع 6,1٪ والاقتصاد الأوروبي بواقع 2٪. فيما سيتراجع نمو الاقتصاد البريطاني بنسبة كبيرة قدرها 8,2٪ والاقتصاد الياباني بنسبة 6,2٪.
والذي فرق أن الثلاثة شهور الأخيرة من عام 2008 المنتهي كانت فترة عصيبة على الاقتصاد العالمي، وتحديداً الاقتصاد الحقيقي، حيث تراجع الإنتاج والتجارة العالميين بصورة دراماتيكية.
وقد أوصلت هذه الانهيارات المتوالية عامل الثقة (confidence) في الاقتصادات ومستقبلها، إلى الحضيض، وصار القطاع المالي عنوان انعدام هذه الثقة. فإذا لم يستعد هذا القطاع نشاطه ووظائفه المعتادة، فإن الوضع سيبقى يراوح مكانه إلى أن تستعيد آلياً النمو في الاقتصاد الحقيقي (خصوصاً دالة الطلب) حيويتها من جديد وتقنع الجميع بالالتحاق بدورتها.
واللافت في هذه الأزمة تمثُّلها التام لكيفية حدوث الزلازل الأرضية، حيث تكون قوة الزلزال (على مقياس ريختر) أعلى في مركز حدوث الزلزال منها في الأطراف المجاورة لمركز الزلزال، فتكون الأضرار المادية والبشرية التي يخلفها الزلزال في المركز أكثر بكثير من تلك التي تتعرض لها المناطق المحاذية والمجاورة لمركز حدوث الزلزال.
ففي حين أحالت الأزمة بلدان المركز الذي اندلعت فيه وتحديداً الولايات المتحدة وبلدان أوروبا واليابان، النمو الموجب في الفترة السابقة لاندلاع الأزمة إلى نمو سالب على النحو المبين أعلاه، فإن وقع هذه الأزمة على البلدان التي تأثرت بها عن بعد، كان أقل وطأة. صحيح أن النمو في هذه المناطق سوف يتراجع بصورة حادة عما كان عليه قبل الأزمة. إلا أنه سيظل محتفظاً بحالته الإيجابية. حيث سينخفض معدل نمو الاقتصاد الصيني إلى 7,6٪ هذا العام بعد أن كان حقق ضعف هذا الرقم قبل سنتين. ولسوف يبلغ معدل نمو الاقتصادات الصاعدة 3,3٪ هذا العام و5٪ في العام القادم. كما أن الاقتصاد الصيني سوف يعاود رفع وتيرة نموه إلى 8٪ اعتباراً من العام القادم.
ومعلومٌ أن معظم بلدان الاقتصادات الناهضة ينتمي إلى مجموعة النمو الآسيوية زائداً الصين والهند وروسيا، وهي ذات الدول التي تعرضت لإعصار مالي مدمر في عام 1997 (بالنسبة للمجموعة الأولى) وفي عام 1998 (بالنسبة لروسيا) - أن هذه الدول لاشك قد تعلمت من دروس تلك الأزمة فعملت على مراكمة احتياطيات نقدية ضخمة لاستخدامها في ‘اليوم الأسود’. ولذلك جاءت الأزمة أقل حدةً على اقتصاداتها من الاقتصادات الغربية (والاقتصاد الياباني الذي قلَّدها كما هو دأبه منذ انطلاقة نهضته التنموية) التي استهانت بقواعد النظام الرأسمالي نفسه وتحولت إلى كازينوهات للمقامرة بما يفوق الفوائض الاقتصادية للاقتصاد الحقيقي.
أما الاقتصادات الخليجية التي أبهرت بأدائها في السنوات العشر الأخيرة (خصوصاً في الخمس منها الأخيرة)، وكالات التصنيف الدولية وبيوت الخبرة والتحليل الدولية، بفضل أسعار النفط التي ظلت محلقة عالياً خلال هذه الفترة، فإنها بدأت تستشعر أولى تداعيات وآثار الأزمة بعد الانحسار الكبير في إيراداتها النفطية نتيجة للانهيار التاريخي لأسعار النفط، متمثلة في تراجع معدلات النمو المتوقعة للعامين الماضي والجاري، وانكشاف مؤسسات إدارة السياسة النقدية أمام ضغط ‘تخشُّب’ السيولة في النظام المصرفي بعد الخسائر التاريخية التي مني بها عدد غير معروف (حتى الآن) من وحدات النظام المالي والمصرفي، وتدهور سوق العقار (الذي اتخذ شكل هبوط ارتطامي في بعض الحالات)، ظهور مؤشرات ما يمكن أن نسميه مجازاً بالإعسار الاستثماري، وبدء ظهور معاناة أسواق العمل بعد انتقال الأزمة إلى الاقتصاد الحقيقي. ويقال إن حوالي 10٪ من المشاريع الإنشائية والعمرانية الخليجية المقدر إجماليها بحوالي ثلاثة تريليون دولار، واقع تحت تأثير الأزمة. فهنالك نقص حاد في السيولة في كل مكان ما قد يعني تعليق تنفيذ هذه المشاريع، ليس في كافة دول التعاون وإنما في أكثر اقتصاداتها تأثراً بالأزمة نتيجة التوسعات المفرطة وغير المنضبطة.
ومع ذلك فإن تأثيرات الأزمة على اقتصادات بلدان المنطقة أقل وطأة بلا شك من تأثيراتها على اقتصادات الدول المتقدمة وعدد من الاقتصادات في أمريكا اللاتينية وآسيا. فلازال القطاع المصرفي هنا صامداً أمام العاصفة رغم الأضرار المتفاوتة التي لحقت بوحداته هنا وهناك، ولم تتحول إشاعات الانهيار والإفلاس إلى واقع حتى الآن على الأقل.
بل إن الوضع الراهن ربما انطوى على فرصة مواتية للدول الخليجية، وهي دول تصنف على أنها دول تنموية أي أن حكوماتها وأجهزتها التنفيذية هي التي تقود مشاريع التنمية فيما يرافقها في المهمة القطاع الخاص، لكي تشرع في تنفيذ مزيد من مشاريع البنية الأساسية مستفيدة من التراجع الكبير في أسعار المواد الخام والمدخلات الصناعية والإنشائية الأخرى.
ومع ذلك فإننا نعتقد أنه ما لم تتحسن أسعار النفط لتصل عند حد نقطة التعادل على الأقل وهي 60 دولاراً للبرميل خلال النصف الثاني من العام الجاري، فإن من غير المتصور حدوث انفراج في أزمة السيولة و’الاختناقات’ التي يكابدها النظام المصرفي الخليجي.
صحيفة الوطن
22 فبراير 2009