لكي نعرف إشكاليات اليسار الإيراني الراهن لابد لنا من رؤية تطور اليسار في الماضي، وكيف تشكل في مرحلة الانتقال التي لاتزال مستمرة وضارية وجارية في إيران من الإقطاع إلى الرأسمالية. لقد حاول نظامُ الشاه تحقيق قفزة في العلاقات الرأسمالية خاصة خلال ما سُمي الثورة البيضاء. لقد قـدر عدد عمال الصناعة بأربعة ملايين عامل في سبعينيات القرن العشرين. كانت إيران قوة نفطية عالمية كذلك: «إيران هي رابع أكبر منتج للنفط. وسنة 1976 أنتجت 295 مليون طن من النفط، (أي 10% من الإنتاج العالمي«. والإصلاح الزراعي الذي قام به الشاه باعتباره ثورة بيضاء كان أغرب إصلاح زراعي، فقد أدى إلى تقوية الإقطاعين السياسي والديني: «كان الشاه يحاول لعب دور ملك مطلق على شاكلة الأنظمة الملكية الإيرانية القديمة. وفي الوقت نفسه كان يحاول عصرنة اقتصاد البلد. وطبق «إصلاحا «زراعيا« من أجل اكتساب قاعدة دعم لنظامه. أدى هذا «الإصلاح الزراعي« إلى إثراء النبلاء والملاكين العقاريين المتغيبين الذين سيطروا على إيران. حققوا ثروات هائلة كتعويض، الشيء الذي استثمروه في الصناعة. كانت الفكرة هي تحويل النبلاء إلى طبقة رأسمالية، إلى طبقة سائدة على النموذج الغربي«، (الثورة الإيرانية، بقلم تيد غرانت، كاتب ألماني، ومن موقع إلكتروني). إن النظام الشاهنشاهي هو نظام إقطاعي بشكل عام، ولكنه يوسع العمليات الرأسمالية في المستوى التجاري، في حين إنه يقبض على المورد الرئيسي وهو النفط، وهو ما يجعل النظام الإقطاعي قويا، فحقولُ النفط ليست سوى مزارع على الطريقة العباسية، ودخولها هي خراجٌ عصري، حتى عملية الإصلاح الزراعي أدت إلى توسع الفئات الإقطاعية وإثرائها، وقامت بإجراءاتٍ خطرةٍ على المستوى الاجتماعي العام فضربتْ بعضَ أملاك رجال الدين الريفية، وأدت إلى هجرةٍ واسعة من الريف للمدن، فقام النظامُ بتوحيد الإقطاع الديني والفلاحين والعامة في المدن الكبرى، وحشدها ضده في مراكز قيادته المدنية. على المستوى الفكري قادتْ هذه الهجراتُ والضرباتُ إلى خفوتِ الأفكار التنويرية والديمقراطية، ويُلاحظ ذلك في تراجع حضور المنظمات التي رافقت حركة مصدق كالجبهة الوطنية، مما خلق مناخاً محافظاً كبيراً على المدن، وقد نقل الفلاحون المقتلعون من أرضهم عاداتهم الدينية إليها، فشهدت طهران صعوداً واسعاً للمنظمات الدينية المحافظة خاصة العبادية منها، التي تغدو احتفالات جماهيرية واسعة عبر المناسبات الشيعية، ولكن هذه تعرضت للحصار في بعض الفترات. وعلى المستوى الفقهي فإن الإقطاع الديني المضروب في الريف أو المهجر لم يقمْ بإعادة النظر في الإرث الديني التقليدي المستورد من القرون السابقة، فقد عارضَ الإصلاحَ الزراعي بشكلٍ مطلقٍ وحاسم، ولم يميزْ هنا بين مصادرة الأراضي الإقطاعية وإعطاء الفلاحين بعض الاراضي، وبين عمليات التعويضات الكبيرة للملاك، فتناولها بشكلٍ عام، واعتبرها ضمن الاعتداء على الملكية الخاصة المقدسة. كان هذا يشير ضمناً إلى تأييده البنية الإقطاعية خاصة على مستوى الزراعة، وهو الجانبُ المرئي الظاهري الواضح، ولكن على مستوى غير المرئي وغير الواضح، كان هذا يعني دعم النظام التقليدي الماضوي المتخلف. لم تجد هذه العمليات التحديثية التمزيقية للمجتمع الإيراني من الغرب المسيطر أي استنكار أو نقد، بل اُعتبرت عملا عظيما تحديثيا من قبل الشاه، وكان ما سُمي الاستعمار الأنجلو – أمريكي في ذلك الوقت، يعتبر الشاه قوة تحديثية مساندة للغرب في المنطقة، نظراً لسيطرة الجانبين على النفط وتوزيعه في الأسواق، ولو كان هذا قد استند إلى تخفيض قوة الشاه العسكرية والبيروقراطية المتصاعدة، وتمت إجراءات في المؤسسة الملكية باتجاه الديمقراطية وتوزيع فوائض النفط الهائلة على محاربة الفقر ونشر الثقافة الحديثة، لكان ذلك مهما على مستوى تطور المنطقة ككل واستقرارها، لكن ذلك لم يحدث. كان تضخيم آلة النظام العسكرية تلك فوق بلد فقير أمي، أكثر الأخطاء جسامة وتهوراً في عملية تبعية إيران للغرب الاستعماري وقتذاك، وهو الميراثُ الذي سوف يتبناه النظامُ الدكتاتوري الديني ويوسعهُ على حساب الشعب الفقير نفسه. وبدلاً من أن يقومَ الشاهُ برسملةِ إيران وتحديثها وسع الإقطاعَ السياسي الذي يرأسه، كما انه قوى الإقطاع الديني الذي أرادَ البطشَ به. لقد ضخم الآلة الحربية و«البوليسية« للنظام وجوّع الشعب، وتغدو مسألة استرجاع المجد القومي الفارسي التي كان مهووساً بها، شكلا ايديولوجيا لجعل آلة الدولة جبارة وذات توسع إقليمي، سيكون دائماً ضد المجال العربي، وهذا ما سوف يتابعه الإقطاعُ الديني وقد استولى على آلة الدولة نفسها وأضافَ إليها آلة المذهب المسيّسة لصالح استغلاله. فهذا التوسع العابر للحدود يتضمن رؤية غير عصرية فهي رؤية لا تؤسسها برجوازية تحديثية ديمقراطية بل إقطاع سياسي باطشٌ يرتكزُ في فهمهِ التوسعي على أمجاد الأكاسرة، وهو تاريخ دموي قديم تعبرُ عملية تكرارهِ واستنساخهِ بشكلٍ عصري عن العلاقات الاستبدادية الشرقية العتيقة التوسعية، لكنه هنا يجرى بشكلِ إقطاعٍ سياسي، وفيما بعد وعبر سيطرة المذهبيين الشموليين سوف يجرى ذلك بشكل ديني، وفي كلا الجانبين نرى القومية الفارسية الشوفينية غير التحديثية، التي لم تجر لها عمليات فكرية وسياسية عميقة ديمقراطية.
صحيفة اخبار الخليج
22 فبراير 2009