بانتخابهم لأحزاب اليمين المتطرف في الانتخابات البرلمانية التي أجريت في يوم العاشر من فبراير الجاري، فإن الإسرائيليين قد يكونون قرروا الجنوح ببلادهم نحو أقصى اليمين؛ وكأن ائتلافهم الحكومي السابق صاحب محرقة غزة الأخيرة لا يرضي غرورهم ويلبي رغباتهم ومطامعهم.
فقد أعطى الناخبون الإسرائيليون أصواتهم إلى حزب ‘كديما’ الذي أسسه أرييل شارون بعد انفصاله عن حزب الليكود، فجاء في المرتبة الأولى في عدد المقاعد وحصل على 28 مقعداً من أصل 120 مقعداً من إجمالي عدد مقاعد الكنيست الإسرائيلي، وإلى حزب الليكود بزعامة بنيامين نتنياهو الذي حل ثانياً بفارق مقعد واحد فقط خلف حزب ‘كديما’، وإلى حزب ‘إسرائيل بيتنا’ بزعامة افيغدور ليبرمان الذي حل ثالثاً بخمسة عشر مقعداً، مزيحاً بذلك حزب العمل الذي لم يتمكن سوى من الحصول على 13 مقعداً.
وإذا أضفنا إلى ذلك انتخاب الإسرائيليين لثلاثة وثلاثين نائباً متديناً يمثلون ثلاثة أحزاب دينية صرفة هي شاس الذي حصل على 11 مقعداً، ويهدوت هتوراة (5 مقاعد)، والبيت اليهودي (3 مقاعد)، إضافة إلى 4 نواب من حزب الاتحاد القومي اليميني المتطرف.
وباعتبار أن حزب ‘كديما’ هو حزب قومي يميني متطرف بنفحات دينية إقصائية يكفي أن يكون مؤسسه شارون الغني تاريخه الدموي عن التعريف، والذي لم يخرج من الليكود قبل بضع سنوات لا لشئ إلا لأنه اختلف مع الدوغمائي نتنياهو فيما يخص قطاع غزة، حيث ارتأى شارون أنه من الأفضل لإسرائيل الانسحاب من غزة وتركها فريسة لصراعاتها الداخلية ولمأزقها الجيوسياسي بينما تمسك بها نتنياهو.
نقول بهذا الاعتبار فإننا لو جمعنا عدد مقاعد الأحزاب اليمينية المتطرفة التي ستهيمن على الكنيست الإسرائيلي الجديد: 28 مقعداً لكديما + 27 لليكود + 15 لإسرائيل بيتنا + 11 لشاس + 5 ليهدوت هتوارة + 3 للبيت اليهودي + 4 للاتحاد القومي اليميني، فإن إجمالي عدد مقاعد الكنيست التي حصدها اليمين الإسرائيلي المتطرف يبلغ 93 مقعداً، أي أنه صار يسيطر على 5,77٪ من مقاعد الكنيست، تاركاً 27 مقعداً فقط لبقية الأحزب منها 15 مقعداً للأحزاب العربية و17 مقعداً لحزب العمل وحزب ميريتس اليساري.
بهذا المعنى يكون المجتمع الإسرائيلي قد حزم أمره وقرر ركوب موجة التطرف التي كانت بلدان منطقة الشرق الأوسط قد صعدتها طوراً بعد طور منذ قيام الثورة في إيران قبل 30 عاماً وانفجار الظاهرة ‘الجهادية’ الأفغانية وتطاير شراراتها وشررها على امتداد الكرة الأرضية.
وبهذا يكون الإسرائيليون قد أكملوا حلقات مشروع إنهاض العصبيات الدينية المتطرفة وتسخيرها لخدمة وتحقيق غايات مذهبية وطائفية وقومية عنصرية، ولكن ليس من دون خلفيات اقتصادية مصلحية بطبيعة الحال لكل أولئك الحاملين لمشاعل نفرة العصبيات بالغة الغلو والتطرف.
الأحزاب الإسرائيلية التي أتينا على ذكرها عاليه والمؤسسة على اللاهوت اليهودي الدوغمائي، هي من جنس الأحزاب الأقصائية والإلغائية الكاملة. فحزب ‘إسرائيل بيتنا’ يطبق نفس نظرية المحافظين الجدد في الولايات المتحدة: من ليس معنا فهو ضدنا، وبناء عليه فإن عقاب عدم الولاء لإسرائيل (ويقصد بذلك عرب إسرائيل الذين لم ينزحوا عنها في عام 1948 حين قيام الدولة العبرية) هو سحب المواطنة.
ولا تختلف بقية الأحزاب الدينية الأخرى كثيراً عن إسرائيل بيتنا في طروحاتها الإلغائية. فهي بهذا المعنى تقترب من أنماط المنظمات الفاشية الضاربة عرض الحائط بمبدأ التعايش السلمي واحترام حقوق الآخر وكافة القواعد والمواثيق التي أجمعت عليها وأقرتها الأسرة الدولية.
وهكذا فإن هذا التدافع الحاصل في المنطقة، الجانح نحو التطرف الديني، وهذا الانفلات الغزير والعشوائي للعصبيات من مختلف الأشكال والأنواع، قد أوديا بالدولة المدنية، كتنظيم مؤسساتي حداثي، في منطقة الشرق الأوسط، إلى مهاوي الذوبان والاضمحلال تحت وطء الزحف المتجاسر لرموز ومقومات الدولة الدينية، وتحت سمع وبصر مؤسسة الدولة المدنية التي لم تتحرك للحيلولة دون تمادي وتفادي هذا التمدد الآخذ في الاستفحال يوماً بعد يوم، وإنما اكتفت بالفرجة وربما التماهي مع وقائعه الجارية بسلاسة متسربلة في ثنايا حياة مجتمعاتها.
لما كان ذلك فإن صعود الدولة الدينية في غير بقعة من بقاع هذه المنطقة الحافلة بشتى المتناقضات، صار حقيقة ماثلة لا يمكن نكرانها أو التهوين من أمرها.
ومما لاشك فيه أن ذلك التجلي الصارخ والقبيح للأيديولوجية الصهيونية في أعلى درجاتها الإقصائية القطعية البغيضة، والذي جسدته نتائج انتخابات الكنيست الأخيرة، سوف يؤدي إلى إطلاق المزيد من سموم العصبيات القروسطية الغابرة ولكن النافرة بشدة في أوقات الذروة التي لا تكاد، على أية حال، تنقطع عن الإيقاع ‘الطبيعي’ لسيرورة الحياة المجتمعية الشرق أوسطية!
هي صدمة أخرى جديدة بلاشك لمعسكر الاعتدال العربي الذي ظل يحاول الاستفادة من الهامش الضئيل جداً لنزعات العقلانية المتوزعة بشحة هنا وهناك، لدفع المنطقة بعيداً عن كرة اللهب وتقريبها من مناخات لا تجافي الصفاء وتسمح بتحقيق اختراق إعجازي في جدار الخوف المتحفز أبداً.
ما العمل؟
العمل المطلوب لصد الهجمة الضروس للدولة الدينية في المنطقة، كثير، وقد لا يتسع المجال هنا للتداول بشأنه. ولكن وفيما يتعلق بالعضد والمدد الكبير الذي تلقته قبل بضعة أيام عناصر وكوامن دفع هذه العملية التاريخية الارتدادية من صوب الناخب الإسرائيلي الذي اختار تصعيد الموقف إلى ذراه الشاهقة، والذي سوف يدفع بالأوضاع في المنطقة إلى مزيد من التعقيد ويضيف إلى أعبائها أربع سنوات عجاف أخرى، فليس أمام الدولة العربية من خيار سوى التحلي برباطة الجأش والحكمة لعدم تمكين الطغمة الجديدة الحاكمة في تل أبيب من استدراجها وتوريطها في مزيد من المغامرات المدمرة.
نعلم أن زيارات المسؤولين الأمريكيين والأوروبيين سوف تستمر وتزداد إلى المنطقة على نفس المنوال، وقد تسجل وزيرة الخارجية الأمريكية الجديدة السيدة هيلاري كلينتون رقماً قياسياً في عدد هذه الزيارات وذلك خلال فترة الولاية الأولى للرئيس الأمريكي الجديد باراك أوباما. وهي جهود لن تتجاوز حدود العلاقات العامة ومحاولة تسجيل نقاط سياسية للتباهي بها انتخابياً فيما بعد،فلا أحد من كل هؤلاء في وارد إجبار إسرائيل على تطبيق قرار واحد من قرارات هيئة الأمم. وعلى ذلك نحن لسنا مضطرين للتعامل بجدية مع مبادراتهم واقتراحاتهم بشأن المشكل الشرق أوسطي، وإنما علينا مسايرة تلك المبادرات التي لا تنتهي من دون التعويل على جعجعتها، والاستعاضة عن ذلك بالانصراف خلال هذه الفترة (السنوات الأربع العجاف) نحو بناء القدرات (Capacity Building)، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، بما يشمل ذلك إعادة بناء ما خلفته الأزمة الاقتصادية من أضرار على الاقتصادات والمجتمعات العربية.
الوطن 21 فبراير 2009