نكتب هذه السطور محاولة لتقصي الاحتمالات السياسية الممكنة في الانتخابات الإيرانية الرئاسية القادمة في شهر يونيو، وقد رأينا في الحلقة السابقة بعض جذور التاريخ الإيراني البعيد، وكيف جثمت إيران أخيراً على قطار الرأسمالية الحكومية البيروقراطية، وظهر السائق من أهل القرى يقودها فيما يعتقدُ ان سكته هي الإسلام والفضيلة والتطور الحق.
ونظراً إلى هيمنة هذه الرأسمالية الحكومية على المال العام وإنتاج الوعي المسيطر والحكم، فقد ظهر جناحان، هما الوحيدان اللذان يُسمح لهما بالتعبير والتنظيم في صفوف الطبقة الحاكمة.
وهما الجناحان اللذان أُطلق عليهما: جناح المتشددين وجناح الإصلاحيين، وراحا ينفرزان بصعوبة شديدة، ويحكمان بشكل شبه دوري، ويتصارعان على قيادة التطور، وهما منبثقان من ملكية الدولة العامة ومن المؤسسات الخاصة المنبثقة منها أو العائشة بفضل كرمها، وتلعب المؤسسات العسكرية دور قيادة التطور والمتحكمة في النمو السياسي، ويمثل الحرس الثوري إحدى هذه المؤسسات المؤثرة، ومع هذا بل بفضل هذا هو يغوص في فساد كبير، يقول أحد الباحثين الإيرانيين:
“وعلى الصعيد الاقتصادي، فكما يدور الحديث عن كبار مسئولي الحرس الثوري، يدور الحديث أيضًا عن هذه المؤسسة العسكرية والمؤسسات الاقتصادية التابعة لها خاصة مقر خاتم الأنبياء، وشركة “قرب” للتشييد ومئات المشروعات الاقتصادية الكبيرة والثقيلة مثل “إنشاء السدود، وشبكات توصيل المياه، والنفط والغاز، والموانئ، والطرق والمساكن و…” ويذكر أيضًا دخول هذه المؤسسة العسكرية مجال تصنيع الأجهزة الإليكترونية والاتصالات.”، مرتضى كاظميان، ملفات إيرانية، يناير .2009
مع سيطرة المؤسسات العسكرية ومشروعاتها الاقتصادية والعسكرية، تنمو مصلحة مشتركة مع النظام بتوجهه القومي – الديني التوسعي، وهي من هنا تؤيد حكم رجال الدين إلى زمن ما، وهي تنخرط في الاقتصاد والبناء فتقرأ الواقع بصورة أعمق من أولئك، ولهذا تأتي فترة ترى من الضروري التخلص من الحكم الديني، نظراً إلى ضرورات تطور الاقتصاد والجوانب العملية فيه وفي البناء السياسي عامة وهو أمرٌ سبق ظهوره في الدول الشمولية الشرقية ويغدو المطبخ العسكري هو المنتج للسياسة الحكومية الكبرى. ومن هنا ينشأ جناحٌ مؤثرٌ في الانتخابات منها، يرجحُ كفة مرشح ورفض مرشح آخر.
يقول كاتب إيراني:
“أما من يؤمنون بأن الملالي يجب التخلص منهم لصالح أعضاء المؤسسة العسكرية، فيتخذون صف محسن رضائي، القائد السابق لفيالق الحرس الثوري الإسلامي وأحد رجال الأعمال البارزين”، أمير طاهري، الحياة، 17، 10، .2008
بين ثبات النظام وجموده، وبين انفتاحه وتحرره، تظهر الفكرتان الكبيرتان المتصارعتان في النظام اللتان تعيشان على الوعي الايديولوجي المستقى من المذهبية والمكيف لصالح الطبقة ككل، ولجناحيها المتصارعين:
“والقضية لا تمثل جدلاً سياسيا أو فقهيا بين العلماء والمثقفين فقط، بل تتجاوز الجدل إلى الصراع، لأن هذه المسألة تؤثر في توجيه النظام بين أن يستسلم لولاية الفقيه باعتبارها منفذة للإرادة الإلهية في الإعداد لظهور إمام الزمان محمد المهدي، ومن ثم حشد كل الإمكانيات في هذا الاتجاه من دون اعتراض، حتى لو أدى ذلك إلى الصدام مع المجتمع الدولي أو القوى الكبرى، باعتبار أن هذا الأمر يمثل جهادًا واجبًا على الجميع في هذه الدائرة، وبين أن يتجه النظام إلى مواكبة العصر والتعامل مع المجتمع الدولي، وفك تصنيفات الاستكباريين والمستضعفين، والتعامل بفكر مفتوح مع الديمقراطية، وتطوير ولاية الفقيه، والخروج بها إلى آفاق أرحب من خلال إيجاد تبريرات دينية ومذهبية. ولا شك أن كلا الفريقين يحصل على تأييد ودعم يبدوان واضحين خلال الإعداد لانتخابات رئاسة الجمهورية، والأفكار التي تطرح مؤيدة لهذا الفريق أو ذاك، والتكتلات التي بدأت تتشكل على الساحة السياسية”.
من هنا نجد أن الرئيس أحمدي نجاد والرئيس السابق خاتمي يشكلان هذين الموقفين المتضادين المتداخلين، اللذين ينتجان في السياسة تشددا مرة وانفتاحا مرة أخرى، ويوسعان من الرأسمالية الحكومية المسيطرة، مثلما يفاقمان تناقضاتها، لكن هل هما يقودان لظهور ليبرالية حرة وديمقراطية حديثة؟
إن الرأسمالية الحكومية تستفيد من التوجهين، وهي تخلقُ نقيضَها كذلك ومن داخلها، فكلما نمتْ الفئاتُ البرجوازية واستقلت تفكر في إعادة النظر في النظام ككل، مثلما يفكر قائد الحرس الثوري السابق محسن رضائي والمليونير الحالي.
إن الحفاظ على النظام الديني المتشدد هو حفاظ على طريقة هذه الفئات الاجتماعية الحاكمة في استغلال الموارد العامة لصالحها، وعبر إشغال الشعب بهذه اللعبة السياسية، وعبر تشديد القبضة المحافظة على الأخلاق وحياة الناس العامة.
ولهذا يتشكل طابقان من البناء السياسي: طابق فوقي ظاهري عن الحرية والثورة والأخلاق الفاضلة، وطابق تحتي سري للفساد ولنمو الاقتصاد الطفيلي وتجاوز الأخلاق.
ومن المؤكد ان الجناح الليبرالي المنفتح في النظام هو أفضل بكثير من الجناح المتشدد والمغامر، ولكن الجناح الليبرالي لا يتوافق كليا مع إرادة العسكر ومشروعاتهم إلا إذا تم انتقال واسع منهم للرأسمالية الخاصة، كما حدث لقائد الحرس السابق الذكر.
حين تتفق قيادات الحرس الثوري والجيش والمخابرات والرأسمالية الحكومية والخاصة الكبرى على تجاوز النظام الراهن يحدثُ ذلك، ولكن الآن تبقى لعبة البحث عن مخرج للمأزق التاريخي لإيران.
أخبار الخليج 20 فبراير 2009