المنشور

بين الأنظمة السياسية والأحزاب الشيوعية


بعدما عمل الحزب الشيوعي السوداني في الظل، بحيث لم يعقد أي مؤتمر من مؤتمراته الحزبية طوال اثنين وأربعين عاما، أي منذ عام 1967،. فإنه عقد مؤتمره الأول في أواخر يناير عام 2009، إذ جاء عقد هذا المؤتمر انتصارا للحزب الشيوعي السوداني خاصة، وانتصارا لجميع الأحزاب الشيوعية قاطبة.. مثلما جسدت مضامين هذا المؤتمر وأهدافه علامات مضيئة لأصول الفلسفة الماركسية بماديتيها (الجدلية والتاريخية) ولتاريخ الحزب الشيوعي السوداني الذي بمنابعه المبدئية والنضالية تجذر في أرضية الواقع المجتمعي السوداني الملموس.. منذ تأسيسه في عام .1946
ولعل ما يبعث على فخر الشيوعيين الحقيقيين هو أن هذا المؤتمر التاريخي للحزب أنهى بقراره المبدئي بالإبقاء على اسم الحزب وهو (الحزب الشيوعي السوداني) والتمسك بالماركسية، بعد أن أصبحت الكفة الراجحة للكوادر القيادية في الحزب التي أيدت الاسم (الشيوعي) بدلا مما يراه البعض من الكوادر الحزبية بتسميته بـ (الاشتراكي) ولكن أيا كانت الأمور وما تمخضت عنها من النتائج هو أن الحزب الشيوعي السوداني وبعد نضالاته المريرة وتضحياته الجسيمة من أجل تحقيق الحريات العامة والديمقراطية وتشكيل مؤسسات المجتمع المدني ومن أجل تحقيق شعار “وطن حر وشعب سعيد” فإنه قد آمن بالواقعية السياسية مع الحفاظ على الثوابت المبدئية.
وعلى الرغم من كبوة الحزب الشيوعي السوداني ومروره بقسوة تجربة الانقلاب العسكري بقيادة (هاشم العطا وأبي بكر النور) وغيرهما في 19 يوليو 1971 ضد النظام الدكتاتوري السوداني البائد.. وإقدام رئيسه جعفر النميري على إعدام خيرة مناضلي وقياديي الحزب وعلى رأسهم الأمين العام للحزب عبدالخالق محجوب والقيادي والمناضل النقابي الشفيع أحمد الشيخ على الرغم من ذلك كله فإن وثائق اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني أكدت التمسك بالنضالات السياسية والإضرابات السلمية والحوارات الوطنية فظلت أياديه نظيفة ناصعة البياض لم تتلوث بالدماء البتة كما هو حاصل لدكتاتوريات الأنظمة العربية الرسمية والمخضبة أياديها بدماء المناضلين والمسحوقين وطالبي الحرية والكرامة الإنسانية.
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فإنه يمكننا أن نستشهد بما ورد في مقالة الكاتب (داود البصري) المنشورة في جريدة الأيام في 28 يناير 2009 والمعنونة (هل كان الحزب الشيوعي العراقي دمويا؟).. هذا الكاتب هو ليس بشيوعي ولم يمت بأي انتماء إلى الأحزاب الشيوعية بحسب ما أورده في مقالته، إلا أنه دافع عن حقائق وتاريخ الحزب الشيوعي العراقي بنزاهة النظرة الحيادية.. وذلك إنصافا للتاريخ والتزاما بالوقائع الملموسة، بحسب ما جاء ذكره خلال مقالته.. وهو حينما استرسل قائلا: (لم يؤد لأي انتقام شيوعي لجلادي البعث حيث لم يسجل التاريخ العراقي المعاصر أن الشيوعيين قد انتقموا لدماء قياداتهم ورفاقهم أبدا).
ولعل هناك فقرة أخرى بالغة الأهمية بهذا الصدد ضمن مقالة الكاتب، حينما عقب بقوله (لكنهم.. أي الشيوعيين.. كانوا مسالمين بالكامل حتى ان انقلاب العريف حسن السريع في معسكر الرشيد في تموز 1963 الذي هيمن فيه الشيوعيون على الموقف لم يتم خلاله قتل أي مسئول بعثي كبير بمن فيهم وزير الداخلية حازم جواد الذي نجا بجلده وساهم فيما بعد في حفلات الإعدام الشامل).
وهكذا جسدت نضالات وتضحيات قيادات وكوادر الأحزاب الشيوعية في العالم العربي صفحات مبدئية وتاريخية مشرفة ومواقف نضالية مشرقة.. ديمقراطية بتسامحها.. متواضعة بعقلانيتها وماركسيتها.. متألقة بتحليلاتها وبرامجها السياسية.. شامخة بجماهيرها وشعوبها.. مؤمنة بالعمل السياسي والنضال الحزبي والشعبي والجماهيري.. وفي مقدمة هذه الكوكبة المناضل يوسف سلمان يوسف (فهد) مؤسس وأمين عام الحزب الشيوعي العراقي في 14 فبراير 1949 ورفيقاه حسين الشبيبي وزكي بسيم ومن بعدهم سلام عادل الذي أصبح سكرتير الحزب الشيوعي العراقي والذي اغتيل على أيادي الجلاوزة في 7 مارس 1963،. وسكرتير الحزب الشيوعي اللبناني المناضل فرج الله الحلو الذي استشهد في 25 يونيو 1959 تحت وطأة التعذيب في دمشق – والمناضل والمفكر حسين مروة.. والمناضل مهدي عامل عضوا اللجنة المركزية للحزب الشيوعي اللبناني.. اغتيل حسين مروة على أيادي الوجه الآخر للنظام العربي الاستبدادي وهو تيار الإسلام السياسي الظلامي في 17 فبراير 1987،. واغتيل مهدي عامل على أيادي قوى التيارات الإسلامية نفسها في 18 مايو 1987،. أضف إلى ذلك إعدام قيادات مناضلي الحزب الشيوعي السوداني.
هؤلاء هم جميعا بأحزابهم الشيوعية المناضلة العريقة آمنوا بمبدأ التعددية ومفاهيم الديمقراطية والأساليب الواقعية السلمية والشعبية.. ورفضوا الانقلابات العسكرية.. لكنهم نسجوا أعظم الملاحم النضالية والبطولية والمبدئية وقدموا ثمن الضريبة باهظا بالدم والسجون والمعتقلات والملاحقات.. وتحدوا أعواد المشانق المنصوبة بأيادي جلادي الحكومات الدكتاتورية بصمودهم وإيمانهم بمقولة رفيق دربهم المناضل (فهد): (الشيوعية أقوى من الموت وأعلى من أعواد المشانق)، فتساموا على جراحهم وغالبوا معاناتهم وتجاوزوا ذواتهم حتى وجدوا مكانتهم عظيمة في قلوب شعوبهم وعقول جماهيرهم.. بقدر ما حفرت مكتسباتهم الوطنية وإنجازاتهم المبدئية في صخرتي الواقع والزمن.. بينما دكتاتوريات الأنظمة العربية من المستبدين والجلادين ظل البعض منهم بمعزل عن شعوبهم ومجتمعاتهم.. بل هم دخلاء عليها وغرباء إزاءها وعلى طبقاتها.. وظل البعض الآخر مشردين مطاردين بطائلة الملاحقات خارج الوطن أو مذلين بوصمة العار على جباههم ومهانين ببراكين غضب المسحوقين والمضطهدين بعد أن ألقي بأنظمتهم الأوتوقراطية في مستنقعات ومزبلة التاريخ.
 
أخبار الخليج 20 فبراير 2009