سوف يجري في شهر يوينو القادم انتخاب رئيس جمهورية إيران. ويسعى الرئيس أحمدي نجاد لتجديد مدة رئاسته في معارضة ستكون قوية ضد الإصلاحيين.
أخذ يبرز خلال السنوات الماضية جناحان في السلطة الإيرانية هما جناح الإصلاحيين وجناح المتشددين المحافظين الذين يطلقون على أنفسهم (الثوريين) أو (الأصوليين)، ولا يبرز أساساهما الاجتماعيان، نتيجة تعقد وغموض أجهزة الدولة وتداخلاتها مع الطبقات الثرية الحاكمة والمتحكمة في توزيع الدخول الأساسية.
وكلا التيارين ينتمي إلى الطبقة التي تولت السلطة بعد الإطاحة بالشاه، وورثت امتيازاتها وإداراتها، وأوقفت نمو الفئات المتوسطة الحرة ذات العلاقة مع الغرب والمنفتحة، وجاءَ رجالُ الدين بفئات أخرى، أغلبها من القرى بوعيهم المذهبي التقليدي الذين حددوا مسار التطور.
أي إننا أمام هيمنة طبقة تعود جذورها للقرى والمدن الصغيرة بتقاليدها المحافظة.
عبرت هذه الطبقة بكل مستوياتها عن السيطرة على مفاتيح التحول من الإقطاع للرأسمالية، فهي لا تريد التطابق مع الرأسمالية الغربية بمعاييرها، وتحاول أن توجدَ معاييرَ أخرى تقول إنها من الإسلام، وهي معاييرُ معيشتها في هذه القرى على مدى القرون السابقة، ومن دون انفتاح ومن دون ديمقراطية وتقدم.
أي أنها تريد القيام بما قام به الاتحاد السوفيتي والصين وفيتنام وغيرها من دول الشرق عبر نهوض معين لا يستورد صيغ الغرب في التحول، ولكن بخلاف تلك الدول (الاشتراكية) التي تعايشت مع الحداثة بقوة، فإن العقيدة المحافظة هنا هي عقيدة مذهبية دينية، تريد أن تصنع نظاما رأسماليا حكوميا شموليا نهضويا عبر أسس دينية صارمة.
هذا الجمع بين العقيدة والنظام الرأسمالي الحكومي، هو أمرٌ صعب، خاصة من خلال قيادة القرية، بسبب ان العقيدة تنتمي لزمنٍ معينٍ هو زمنُ المذهب حين تم تشكيله في إيران بين القرنين التاسع والسابع عشر الميلاديين، وهي فترة طويلة قامت فيها القومية الفارسية بقيادة الأمراء والملوك بتفصيل مبادئ الاثني عشرية الإسلامية المستوردة من العراق لتلائم نموها السياسي الفارسي الخاص، وهي فترة محافظة جامدة، بعكس الفترة الحالية بين القرنين العشرين والواحد والعشرين، حيث ضخامة التطورات التي تتطلب من قادة المذهب الفقهيين والسياسيين سرعة وعمق الاجتهاد.
فيتم اقتطاع عبارات من الإسلام لتركيبها في هذا التحول السريع الصعب من قيادة ريفية تحاول الهيمنة على المدينة السريعة.
وحين انقسمتْ السلطة الإيرانية بين سلطة المرشد وسلطة الرئيس والبرلمان، أي بين سلطة العقيدة المحروسة والمسيطرة على النظام السياسي، وبين المتاح لهذه الدولة الدينية أن تسير عليه في تسيير شؤون المواطنين والعلاقات التحديثية مع العالم وجدت نفسها أمام تناقض كبير وهائل.
فقد عبرتُ السلطة الجديدة عن سيطرة الماضي على الحاضر، وسيطرة النصوص الدينية على عفوية الحياة وتطوراتها النابعة من زمانها.
وإذا كانت سلطة المرشد قد عبرتْ عن سيطرة القرية، فإن البرلمان في طهران حاول أن يعبر عن سلطة المدينة المقيدة في الفضاء الإقطاعي.
وقد أقامت الطبقة الغنية ذات الجذور الإقطاعية الفارسية مطابقة بين عيشها ومبادئ الاثني عشرية كما تصورَ ذلك في خيالٍ ايديويولجي خاص بها، ولكن مبادئ الأئمة الاثني عشرية المضحين الشهداء في سيرهم لم تكن كذلك، فقد قامت على عدم وجود سلطة مركزية متضخمة فوق الجمهور، تكون متسلطة، وعدم وجود الحواجز الاجتماعية بين الإمام والمحكومين، وعلى عدم تحول الدولة إلى المالك الأكبر للمال العام، سيراً على آيات القرآن، التي نصت بعدم وجود دولة للأغنياء بين المسلمين، كما تقول سورٌ عديدة بعد القضاء على الجبروت المالي اليهودي والمكي ومنها سورة الحشر:
“ما أفاءَ اللهُ على رسولهِ من أهل القرى فللهِ وللرسولِ ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم”، (جملٌ من آية 7 سورة الحشر).
ومن هنا كان الإمام علي عليه السلام ينفضُ بيتَ المال دائماً موزعاً إياه على المحتاجين، ولم تكن هناك فرق المخبرين والجلادين والشرطة، وفيما بعد قامت دولُ الأسر والدكتاتوريات التي تسمت باسم الإسلام بحجز هذا المال عن التوزيع بحجج كثيرة وأغرقت جماعاتها التابعة به.
ولهذا فقد موهتْ الدولُ الإيرانية خلال حقبة الإقطاع ذلك مثل غيرها من الدول الإقطاعية العربية الإسلامية، هذا التباينَ الجذري بينها وبين الحقبة الرسولية – الصحابية – الإمامية، بتغييبِ هذا المضمون، وماثلت سرقاتها وعنفها واستغلالها بتلك الحقب. وكان التركيزُ في الأشكالِ محاولة لإخفاءِ طابع التناقض بينها وبين الجذور الكفاحية للإسلام.
لهذا ركزتْ جمهورية إيران الإسلامية في أشكالِ العبادةِ بشكلٍ رهيب وعزلت الأحكام الفقهية الجزئية عن طابع الدولة الإسلامي العام الكلي الديمقراطي الإنساني ذاك وهي تسبحُ بذهبِ النفط الغزير، تمويهاً على البسطاء الذين لا يعرفون الإسلام إلا كعبادات، وأججتهُ كسيطرةٍ شمولية عليهم، من أجل مشروعات سياسية تقوم بها والبسطاء مأسورون بتلك الأفكار العامة المؤدلجة لمصلحة الطبقة الحاكمة، غارقون في العبادات وقشور المعاملات مع نسيان الجوهري مثلهم مثل بقية المسلمين، غير أن تركيب ذلك على أجنحة دولة عسكرية كبيرة لها طموحات توسعية يفاقم الخطر كثيراً.
أخبار الخليج 19 فبراير 2009