المنشور

العراق على طريق التعافي


( المالكي.. من الثورة إلى الدولة)

على عكس رجالات الدولة في إيران، والأخص رموز الحرس القديم والتيار المحافظ الذين يمسكون بزمام السلطة في طهران الآن ومازالوا يثبتون بامتياز عجزهم عن التكيف مع استحقاقات الدولة بصورة واقعية تضمن مصالحها ومصالح الشعب الإيراني في آن واحد على قاعدة “فن الممكن” وبعيدا عن التطرف، وهو العجز الذي استمر منذ 30 سنة على تأسيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية، فإن واحدة من أبرز نتائج انتخابات المحافظات الأخيرة في العراق إنما تعكس مستوى الخبرة والنضج الذي تمكن رئيس الوزراء وزعيم حزب الدعوة الديني نوري المالكي، والذي كان مقربا من طهران، من اجتيازه خلال فترة وجيزة من وجوده في السلطة في ظل ظروف تاريخية استثنائية بالغة الدقة والتعقيد تمر بها بلاده، وهي ظروف لا تقارن البتة من حيث تفرد دقتها وتعقيدها بالظروف التي وصل في ظلها الإسلاميون او ما يعرفون بـ “الملالي” إلى السلطة في إيران غداة انتصار الثورة الإسلامية في مثل هذا الشهر قبل ثلاثة عقود.

ولعل أبرز مظاهر هذه الظروف الدقيقة المعقدة التي مازال في ظلها يترأس المالكي حكومة بلاده تتمثل في الاحتلال الأمريكي الجاثم على ربوع الرافدين، ومظاهر العنف والاقتتال الطائفي التي تسبب في تفجيرها الاحتلال نفسه منذ غزوه العراق وتمكنه من إسقاط النظام السابق.
وليست تجربة نوري المالكي في قيادة الحكومة وتمكنه خلالها في التحول والبروز من رجل ثورة وزعيم حزب ديني معارض للنظام السابق الى رجل دولة محنك وواقعي قادر على التوفيق والتكيف بين مبادئه ومثله الثورية المجردة وبين مستلزمات واستحقاقات ممارسته للسياسة في تضاريس الواقع المعقد بما يضمن مصالح الدولة والمجتمع بكل فئاته هي فقط واحدة من أهم وابرز النتائج التي تمخضت عنها انتخابات المحافظات الأخيرة، هو الذي خاضت قائمته تلك الانتخابات تحت شعار بسيط جذاب “دولة القانون” في بلد مازالت كوارث الفوضى الداخلية الناجمة عن وجود الاحتلال وإسقاط مقومات الدولة العراقية الحديثة تجتاحه، لا بل ان واحدة من النتائج الأهم إنما تتمثل في تغير مزاج الناخب العراقي وما قطعه من نضج سياسي خلال السنوات القليلة الماضية من تعاقب حكم الأحزاب الدينية ذات الهوية الطائفية، ومن صراعات بين هذه الأحزاب وميليشياتها الدموية على تقاسم مناطق النفوذ وعلى مقدرات الناس ومصالحها وحرياتها الشخصية في المحافظات.

وهكذا فقد كانت نتائج الانتخابات الأخيرة بمثابة مؤشر حقيقي على سأم الناس وضجرها من تسلط الأحزاب الدينية، ولاسيما في المحافظات الجنوبية، على شئونها الخاصة وتدخلها الفظ في أصغر حرياتها الشخصية العامة، تماما على غرار ما كانت تفعله “إمارة طالبان” الإسلامية وجماعات القاعدة في أفغانستان. ذلك بأن المواطن العراقي البسيط أيقن من تجربته المريرة في ظل تسلط وإرهاب الميليشيات الحزبية، وعلى الأخص ميليشيا جماعة الصدر المعروفة بـ “جيش المهدي” بأنه لم يجن من تلك الأحزاب سوى الأمرين في ظل شعارات هذه الميليشيات ضد الاحتلال، فهو واقع بين مطرقة الاحتلال وسندان تلك الميليشيات التي لم تعجز عن حمايته وتوفير الأمن والاستقرار له فحسب، بل كانت سببا مباشرا في مفاقمة زعزعة استقراره وأمنه، ناهيك عن عجزها عن توفير أبسط مستلزمات الحياة المعيشية الكريمة له في ظل غياب وتغييب دور الدولة من جراء هيمنة تلك الأحزاب الدينية على مقدرات ذلك المواطن البسيط.

وهكذا تمكنت قائمة رئيس الوزراء نوري المالكي من إحراز الموقع المتقدم في النتائج الأولية للانتخابات في معظم محافظات الوسط والجنوب، وتمكن المالكي من اجتذاب الناخب، كما ذكرنا، من خلال شعار “دولة القانون” ووعده بتعميق وتوسيع عملية “المصالحة الوطنية” جنبا إلى جنب مع تعميق وتوسيع المشاركة السياسية بما يمهد الأرضية لاستعادة العراق كامل عافيته السياسية ووحدته الوطنية، بعد تمكنه من إجبار قوات الاحتلال على الانسحاب الكامل من أراضي الوطن.

وثمة درس آخر مستفاد لا يقل أهمية عن النتائج المستفادة المتقدم ذكرها، ويتمثل في الموقف المحايد والنزيه الذي وقفته مرجعية السيد علي السيستاني في النجف وذلك بالنأي بنفسه عن بازار وماراثون الصراعات والمنافسات الحزبية الدينية، حتى بالرغم من محاولات هذه الأحزاب الدؤوب لاستغلال شعبيته الكاسحة في أوساط الجماهير البسيطة لإثبات تمتعها بمساندته لها. وهو درس لعمري كم هو بليغ ومهم وجدير بالاقتداء من قبل قوى الإسلام السياسي الشيعي البحريني، وعلى الأخص كبرى جمعياتها التي لطالما زجت مرجعيتها الدينية وما تتمتع به من شعبية لتوظيفها في الدعاية الانتخابية البحتة ليس ضد حلفائها من الجمعيات الوطنية فحسب، بل ضد منافسيها من الجمعيات الوطنية غير المتحالفة معها وضد منافسيها حتى من جمعيات الإسلام السياسي الشيعي الأخرى، وذلك تحت شعار: “القائمة الايمانية” في الانتخابات النيابية وبصكوك دعم بعض المشايخ في اول انتخابات بلدية بعد الميثاق.

وأخيرا، فإن واحدا من الدروس والمؤشرات الأخرى المستفادة من انتخابات المحافظات العراقية يتمثل في ان القوى الوطنية والعلمانية والليبرالية بدأت تستعيد وتكتسب شيئا من ثقة الناخب الذي مل وسئم من التناحرات والاصطفافات الطائفية الحادة، وأدرك ما تخفيه هذه الأحزاب الطائفية خلف شعاراتها من تكالب على السلطة والمصالح والزعامة باسم الدين وباسم الطائفة على حساب مصالحه كمواطن مقهور، ولعل فوز قائمة الشخصية القومية العلمانية المعروفة يوسف الحبوبي في واحد من اكبر معاقل قوى الإسلام الشيعي بكربلاء لخير مؤشر ودليل على انهيار ثقة الناخبين بقدرة القوى الطائفية والدينية على تمثيل حقوقهم ومصالحهم بأمانة وتجرد.



أخبار الخليج 19 فبراير 2009