يتميز العقل العربي وسلوكه الثقافي بحالة وظاهرة التقديس والتابو , وقد كان الدين والجنس والسياسة هما الثالوث المحرم. وإذا ما كانت الأنظمة وحدها المعنية بممارسة الكبت والقمع السياسي على المعارضة , فان القمع الإعلامي والسياسي تبدى كظاهرة من آلة المعارضة المختلفة والآراء المتباينة , محاولا طرف محدد منح نفسه حق قمع الآخرين في إبداء رأيهم في كل نهج يرونه مخالفا , وصار ذلك النهج السياسي المخالف كله رغم تعدد أطيافه السياسية حالة واحدة , فتم وضع الجميع في سلة واحدة وختم على ظهره وصدره ختم الإدانة المطلقة بالعمالة والتخوين, دون منح العقل حق الحوار في قضية مصيرية تهم شعب كامل وفي القطاع وجد نفسه تحت وابل الموت , بل وصار خياره الوحيد هو المواجهة لقدر لم يختاره ولا لموقف كان قد قرره بإرادته. ما ينبغي علينا مناقشته ليس فقط ما قاله الشيخ القرضاوي في مؤتمر هيئة المسلمين العالمية حول من يعارضون ويهاجمون المقاومة وحماس أنهم يقفون في صف إسرائيل , وبهذا المعنى أو ما هو في جوهره , لهذا أراد منع الآخرين بصوته المرتفع في الفناء الإسلامي وحياضه أن يؤلب تلك الحالة الانفعالية أثناء القصف ضد أطراف ترى أن تلك العملية من المواجهة مع إسرائيل لم تكن خيارا سياسيا وعسكريا سليما. وإذا ما كان ذلك النقد والحوار مختلفا فليس معنى تلك النقاشات المدافعة عن مصير شعب غزة هو احتضان للبربرية الإسرائيلية بقدر ما كان محاولة لتجنب عنجهيتها وهوجها وهيجانها الذي كان يستعد للانتقام بشتى الطرق من خيبته في عام 2006 , ومن ضغوطاتها الداخلية وتحضيره للانتخابات وشعوره برحيل رجلها العزيز من البيت الأبيض وجهلها بمصيرها في آلية التعامل مع رئيس جديد ربما لن يبصم على كل ورقة, ويوافق على كل فكرة تحددها أطراف أحادية دون منح الوضع الإقليمي نظرة جديدة, وإعادة تقييم الصراع والتوتر الإقليمي برمته ابتداء من أفغانستان مرورا بباكستان وإيران وانتهاء بالبوابة الأوربية في الصراع التركي – القبرصي. لن يسعنا الوقت في هذه المقالة مناقشة مصطلح المقاومة والتجارب التاريخية فيها , فهناك الكثير من الأقلام المتحمسة للصراع في غزة وحربها بتشبيهه بحرب فيتنام ومقاومتها وحربها الشعبية , وفي ذات الوقت هجومها الشرس على أصوات رفعت عقيرتها منددة بكل ما حدث في غزة , في الوقت الذي كنا نرى ان تلك الأقلام والنقد الدائر ليس واحدا ومتشابها , ولا يجوز تحميله ما لا يستحقه هكذا دفعة واحدة كما يحدث لمن أطلقوا عليهم النار دون محاكمة عادلة بحجة وتهمة الخيانة والتعامل مع العدو . دون شك هناك أقلام انطلقت بهجومها التهكمي والعدائي لوضع المقاومة وظروفها في أوضاع إنسانية رغم أنها حاولت الفصل بين ظاهرتين , المقاومة وحماس وقوى أخرى تدور في فلكها أو تضع مسافة بينها فلا فرق فيما بينها في المغامرة السياسية والانتحار السياسي بجر شعب أعزل خلفها أو التمترس به لعله يصبح مادة إعلامية عالمية في الوقت الذي فقدت المقاومة سمعتها الدولية كونها مصنفة في خانة الإرهاب الدولي. هذا التداخل ما بين شعب غزة وانكشاف ظهره بعد تدمير وحشي للمدينة ولأجزاء من أحياء فيها , وتقديم الجثث للمصورين كقربان للآلهة المتوحشة بروحها العسكرية. فكان العالم المحتج بصوته القوي ضد الحرب فرصة وتكتيك لم يهتم به ولا بنتائجه ومحصلاته وضحاياه , إلا من يرفعون شعارات وهمية مخادعة للنفس « عن إن كل الثورات الشعبية والمقاومة تقدم ضحايا من دمها شرفا لها , ولا مانع أن تختفي تلك الدماء ” الزكية نهارا وتخرج ليلا لكي تنتظر أن تصطاد دبابة هنا أو دبابة هناك , ولكن يا للحسرة لم نر إلا كمائن لم تهتم بها إسرائيل فقد كان الجيش الإسرائيلي على علم بما تنويه ” المقاومة الليلية” !! فعله , لهذا استخدمت كل تقنية من أسلحتها من السماء والأرض. فمن يا ترى كان مختفيا من شعب غزة ومن كان بلا حول ولا قوة ؟! هذا السؤال ينبغي الإجابة عنه , مثلما ينبغي الإجابة على سؤال آخر لماذا حاولت حماس تقديم دم الابرياء قربانا للدعاية الإنسانية وإثارة الرأي العام العالمي الهائج ضد الحرب والعدوانية ؟ لماذا لم يهتم بالخسائر البشرية والأبرياء من الشيوخ العزل ؟ لأنه كان يحتمي خلفهم ويوظفهم بشعار لن تستسلم المقاومة وترفع الراية البيضاء , فحماس كانت تعبيرا عن الصمود , مثلما كان الشعب الأعزل خياره الجبري هو الصمود , فليس أمام الحمم والدبابات إلا الصراخ والعويل والمفردات الإنسانية المخادعة للذات . هل يستوجب علينا أن نصفق لشعب غزة الذي دفع الثمن بتضحياته أم نصفق لحماس المختفية في النهار والمتحركة في الليل فقط دون أن تنجز أعمالا باهرة تدفع إسرائيل للاستسلام كما فعل الفيتكونغ.
الأيام 15 فبراير 2009