قبل نحو عام ونصف عام تقريبا، وتحديدا أثناء الموسم السياحي العالمي في صيف سنة 2007م، نشرت الصحافة العالمية خبرا سياحيا ظريفا ومؤلما في آن واحد، يمكن القول انه من جنس “شر البلية ما يضحك. الخبر مفاده ان سكان الصفيح والأكواخ السود في سويتو بجنوب افريقيا الذين يغرقون في بحر من البؤس المدقع قد ابتكروا وسيلة “سياحية” جديدة تدر عليهم بضعة دولارات في اليوم الواحد، ولو كانت تقل عن عدد أصابع اليد الواحدة، الا انها تسهم في توفير رغيف يسد الرمق.
اما هذا الاكتشاف المذهل في قطاع صناعة السياحة فيتمثل ببساطة في دعوة ركاب حافلات السياح من الأوروبيين البيض الأجانب المتوجهين لزيارة بيت الزعيم التاريخي لشعب جنوب أفريقيا نيلسون مانديلا للنزول على خط سيرهم عند مناطق أكواخهم ومخيماتهم للاستماع والتفرج على حياة البؤس المدقع التي يعيشون في ظلها، حيث يستقبلهم هناك عدد من المرشدين السياحيين من أبناء تلك الأكواخ.
والغريب ان مخيمات البؤس السياحية هذه لا توجد فيها، طبقا لمتن الخبر، أي عناصر جذب سياحية كالمتاحف والآثار مثلا او المناظر الطبيعية الخلابة او ما يعرف لدينا عربيا بـ “الماء.. والخضرة.. والوجه الحسن”.
ويصف الخبر واحدا من هذه المخيمات، ألا هو مخيم “موتسولداي” بأنه بلا مياه، وبلا كهرباء، وتسكن العائلة الواحدة في بضعة امتار مربعة ولا يوجد لديها اكثر من سرير واحد ومائدة واحدة. أما جهاز التلفزيون فان حظيت واحدة من العائلات المحسودة به فهو يعمل على بطارية سيارة. ومع ذلك، ورغم انعدام كل عناصر الجذب السياحي، فقد تمكن هؤلاء “الأبالسة” البؤساء السود الجنوب أفريقيون من إقناع السياح الأوروبيين بتمضية وقت سعيد للاستمتاع بالتفرج على أحيائهم من الداخل على الطبيعة، بدلا مما كان متعارفا عليه سابقا بإلقاء نظرة عابرة من الخارج على المخيمات عبر نوافذ الحافلات السياحية وهم في طريقهم قاصدين البيت التاريخي القديم للزعيم الوطني الجنوب أفريقي نيلسون مانديلا.
ويبدو في الصورة مع الخبر المنشور سائحان اوروبيان (زوج وزوجة) عند أحد الأكواخ البائسة يرتشفان الشاي الذي قدمه إليهما صاحب الكوخ وهما في حالة نشوة من الاستمتاع السياحي بالتفرج على وضع وحال ذلك الكوخ المزري الذي يبعث على الشفقة الإنسانية بتلك الحياة الوضيعة المدمية لكرامة الإنسان ونحن في مطلع القرن الحادي والعشرين.
الأغرب من ذلك – كما يورد الخبر – انقسام السياح البيض أنفسهم وسكان الصفيح السود معا حول هذا النوع من السياحة، فبينما أعربت مثلا السائحة البلجيكية ليف فانتكوم عن اشمئزازها من هذا الابتكار السخيف من السياحة باعتباره شكلا يحط من كرامة آدمية الإنسان، وإنها تفضل بدلا منه زيارة الأمكنة المرتبطة تاريخيا بقصص وملاحم الكفاح ضد العنصرية، لم ير سياح آخرون أي حرج من تجريب هذا النوع من السياحة التفرج على حياة أولئك البؤساء.
أما سكان الأكواخ المعدمون السود فلا ينفرون او لا يجدون غضاضة من تقديم هذا النوع من الخدمات السياحية للسياح البيض للتفرج على أحوال شظف الحياة التي يرزحون في ظلها مادامت توفر لهم بضعة قروش.
حينما قرأت ذلك الخبر بمزيج من الصدمة والذهول لذلك الحال الذي عليه سكان الصفيح في واحدة من اهم المدن الجنوب افريقية المتحررة من العنصرية حيث يعيشون في عالم آخر تغلفه المباني الشاهقة الجميلة توهمت حينها بأن ذلك سيثير ضجة لن تهدأ من قبل منظمات حقوق الانسان، لكن ذلك لم يحدث البتة على الارجح، إذ مر الخبر مرور الكرام.
ولربما جاء هذا الصمت من قبل الدولة الوطنية التي تحررت من عنصرية وعبودية البيض، لأنها هي نفسها عاجزة أو لا تملك حلا لخلاصهم من الوضع المعيشي والطبقي الذي هم فيه، ولربما كذلك هو سر صمت منظمات حقوق الإنسان، تماما كما هو حال العائلات التي تضطر الى تشغيل أطفالها ونسائها في الشوارع وفي الأعمال الخطرة وغيرها من أعمال ومهن الاتجار في البشر المعروفة.
ولما كانت معظم دول مجلس التعاون النفطية، ان لم يكن كلها، توجد فيها وإن بدرجات متفاوتة أحزمة الفقر المستورة ايضا خلف العمارات الحديثة الشاهقة والفيلل الفاخرة والشوارع المنسقة المزينة بالنخيل والتي ترمز لثرائها، وان كانت هذه الأحزمة لربما تعيش حياة أفضل نسبيا من أحزمة البؤس بمدن جنوب أفريقيا، فان ثمة خشية حقيقية في سياق الجدل الدائر منذ سنوات في بعض أقطار المجلس حول شروط ومقومات السياحة النظيفة ومفهوم “السياحة غير النظيفة” بالرغم من ان طقس الخليج القاسي الرطب والحار جدا صيفا لا يصلح للسياحة، بأن يأتي اليوم الذي نجد فيه سكان تلك الأحزمة الخليجية والتي لم يتبدل حالها منذ اكتشاف النفط وتحقيق استقلالها الوطني وقد سرقوا على حين غرة براءة الاختراع السياحي الجنوب أفريقي لتخفيف معاناتهم المعيشية، لكن هل يوجد حقا ثمة سياح بيض أوروبيون مستعدون لتحمل قساوة مناخنا في عز القيظ لمجرد إشباع نزوتهم السياحية بالتفرج على قرى وأحزمة الفقر في تلك البلدان الخليجية؟!
أخبار الخليج 15 فبراير 2009