لماذا بين ركام الأحداث والوقائع الكثيرة التي نحياها في حياة ممتدة لا تحتفظ ذاكرتنا إلا بنزر يسير منها؟ لماذا تلح على أذهاننا ذكرى بعض الحكايات, وتتوارى آلاف الحكايات اليومية التي عشناها في الطبقات السفلى العميقة من الذاكرة ولا تحضر على بالنا وقتما نشتهي؟ لان لهذه الحكايات وقعا خاصا وسحرا خاصا كبدايات قصص الحب, ام لان حيز الذاكرة محدود وضيق لا يتسع إلا لأشياء محدودة, أشبه بطاقة سد لحبس المياه لا يحتمل أكثر من طاقته؟ هكذا في بداية «ترميم الذاكرة» يتساءل الكاتب حسن مدن تساؤلات عن الذاكرة.
من يقرأ قراءة متأنية لهذا الإصدار أو لسيرة «مدن» الذاتية يجد ذاكرته مليئة بالمحطات المتداخلة تفاصيلها حكايات حياتية ووطنية مستقرة في هذه الذاكرة.
وعن الذاكرة عموما يقول: هي من يصف هي التي تعيد صياغة تشكيل الأشياء بعد أن تصبح على مسافة كافية من تلك المساحة الضرورية لإشعال الحنين إليها. ويقول أيضا: انك لن تستطيع ان تصف المكان اذ تكون داخله لا تكاد تلحظ تفاصيله ودقائقه التي تتآلف منها او تلمسها كل ساعة او تمر عليها كل يوم.
وعلى اثر هذا الاستنتاج انه بالفعل كلما ابتعدنا عن الأمكنة القريبة من قلوبنا والمألوفة لنا مسافات طويلة كلما انشغلت ذاكرتنا بها وازداد الحنين إليها ولكن هل بمقدورنا ان نتذكر تفاصيل هذه الأمكنة؟ لا اعتقد ذلك لان وببساطة جدا كم من الأمكنة غابت تفاصيلها عن ذاكرتنا؟
ورغم كل هذا يبقى القول صحيحاً ما أكثر الأمكنة التي تثيرها الذاكرة على العموم «ترميم الذاكرة» استحضار لأزمنة وأمكنة مختلفة وبالتالي فهي محطات وان توارت بعض ملامحها بفعل الزمن حياتية ونضالية في حياة «مدن» وفي ذاكرته الوطنية.
في هذه السيرة الذاتية الجماعية التي غلب عليها الأسلوب الأدبي الشيق ودفء الكلمات والدلالات العميقة راح «مدن» يغوص في ذاكرته فيتذكر: المراحل الزمنية الأولى وسائر الأمكنة في بدايات حياته عندما كان في تلك القرية البائسة المكتظة بالنخيل ووجوه البسطاء المهمومة القريبة من نفسه وكذلك بيت عائلته القديم وغرفته الخاصة وحياة الطفولة والصبي والبحر وآلام الفقر, والأصدقاء والمدرسة التي كانت محطته الوطنية الأولى, وبدايات العمل في الصحافة المحلية والمجلات والإصدارات الوطنية العربية وكيف لعبت في تشكل وعيه, ابان المرحلة الناصرية ولعبت أيضا في التعرف على المناخ الوطني التقدمي في البلاد والسجن في زنازن البحرين وفي القاهرة عندما كان يدرس هناك, بيروت, دمشق, بغداد, موسكو, الإمارات وعواصم آخرى.
أشياء كثيرة لها وقع خاص في حياته واهم هذه الأشياء الوطن الذي قال عنه «على هذه الجزر الجميلة حكايات مجيدة عن وطن نحبه صاغ شعبه أساطير عن نشأته.
ومن هنا «مدن» الذي ارتبط بهموم وأحلام هذا الوطن الذي عرف قامات وطنية شامخة في وجه الشدائد والمحن في معركة الحياة لم يغب الوطن عنه ابداً بل كان محفورا في قلبه ووجدانه كبقية المنفيين والمبعدين الذين ذاقوا مرارة وقساوة المنفى والغربة ومن هنا وأمام هذا التحدي الكبير في حياته ذاق هذه المرارة وهو في ربيع عمره وبالفعل كان الاختيار صعباً بين العودة الى الوطن والبقاء خارج حدوده ولكنه ليس مستحيلا وبالتالي وبمسؤولية ووعي كبيرين حسم «مدن» هذا التردد ولأجل الوطن ولأجل الناس البسطاء ولكن في كل الأحوال معاناة «مدن» كشاب صغير وقتذاك معاناة ليست سهلة وخاصة انه بقدر ما كان هذا القرار مفيداً في اغناء تجربته الحياتية كما يقول الا انه تم أيضا على حساب تفاصيل إنسانية صغيرة ومهمة في آنٍ في حياته وحرمه من ممارسة الحياة الاعتيادية لشاب في مثل عمره.
لا نريد الدخول في تفاصيل الأمكنة او المحطات النضالية التي انشغل بها «مدن» أكثر من ربع قرن ولكن كل ما نقوله هنا ان هذه المحطات لها تأثير بالغ في تجذر وعيه السياسي والوطني والقومي والاممي, والحق ان قارئ هذه السيرة المختصرة يلاحظ كيف كانت ولا تزال مسيرته النضالية التي هي جزء من مسيرة هذا الوطن الذي تهدد استقراره الآن القوى الإسلامية الأصولية المتعصبة بأجندة ومشاريع ماضوية عدائية للحريات والتعدد والتقدم.. كيف كانت هذه المسيرة في خدمة الوطن والفكر والثقافة والتقدم.
الأيام 14 فبراير 2009