قبل حوالي ثلاثة عقود تم إبرام صلح منفرد مع إسرائيل وكان ‘فارسه’ آنذاك الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات.
وقد أدت هذه الخطوة إلى انقسام العالم العربي إلى فريقين برؤيتين مختلفتين فيما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي. فريق يرى أن استرداد الأراضي والحقوق العربية التي اغتصبتها إسرائيل سيتم من الآن ‘آنذاك طبعاً’ فصاعداً من خلال المفاوضات المباشرة وغير المباشرة، ومن خلال اعتماد مبدأ خيار السلام بدلاً عن خيار الحرب، في إستراتيجية عربية جامعة لتحقيق ذلك الهدف: وإن ‘حرب أكتوبر 1973 هي آخر الحروب العربية ضد إسرائيل’، على حد تعبير الرئيس المصري الراحل أنور السادات.
وقد استغرق الأمر بضع سنوات قبل أن يلتئم الشمل العربي من جديد إثر ذبول وهج ما كان يسمى بجبهة الصمود والتصدي أولاً وجبهة الرفض تالياً بسبب عدم استناد دول هذا المعسكر إلى تحصينات شعبية وإنجازات اقتصادية واجتماعية معقولة، ونهوض معسكر ما يسمى بدول الاعتدال، بالمقابل، على أكتاف الإيرادات الريعية المزدهرة.
فكان أن اتخذ مسار الأداء السياسي العربي في العلاقات الدولية خطاً وسطياً، في المتوسط، ما بين الخطاب الثوروي الفاقع والخطاب الوطني والقومي المعتدل. وظن كثيرون أن هذه الحوصلة المتموضعة منذ نجاح جهود التقريب والمصالحة بين دمشق والقاهرة، هي حصيلة تحولات موضوعية، سياسية واقتصادية وثقافية، وإنها، بهذا المعنى، تبلورت واستقرت عند المقاربة التي حفظها الجميع منذ ما قبل اجتماعات مدريد الإسبانية وما بعد مدريد، وما قبل أوسلو وما بعد أوسلو .. وصولاً إلى ما سمي بخارطة الطريق وتفاهمات ميتشيل وتينت وأنابوليس و… ‘الحبل على الجرار’!
بيد أن بوادر عدم قناعة ثم ممانعة فتمرد على هذه المقاربة، كان قد ولد في رحم كل تلك المراوحات الكلامية الدعائية المرسلة ‘بفتح السين’، خصوصاً بعد أن أصبح أنصار مدرسة المفاوضات المستديمة ‘المسجوعة للمفارقة على وزن العقيمة’ في وضع لا يحسدون عليه، حتى انه لم يتبق لديهم ما يتحدثون به منطقياً ‘موضوعياً عنه، اللهم إلا اللعثمة والتأتأة!
وكان أن أدى هذا الوضع إلى استقواء معسكر الممانعة، الذي كان قد اضطر لمسايرة مدرسة المفاوضات المستديمة، مستفيداً من انكشاف المأزق ‘المادي’ التفاوض الذي انتهى إليه فريق مدرسة التفاوضي المتجدد ‘التفاوضي من أجل التفاوض’.
وكان أن بدأ ذلك الافتراق يشق بنصله جسم وحدة الموقف العربي إزاء التعامل مع ملف الصراع العربي الإسرائيلي، إلى أن أسفر عن نفسه بصورة صارخة في عدوان يوليو الصهيوني على لبنان.
وما أشبه الليلة بالبارحة، إذ يكاد سيناريو سبعينات وثمانينات القرن الماضي يعيد إنتاج نسخته بالتقاطيع والتفاصيل نفسها، ولكن مع فارق في غاية الأهمية، وهو دخول التنظيمات السياسية وأجنحتها العسكرية هذه المرة على خط حالة الانقسام العربي الحالية لتضفي على المشهد العام نوعاً جديداً من الإثارة والتسخين الإعلامي الذي تكفلت القنوات الفضائية المتناكفة بتوفير ذخيرته ومفرقعاته، إذ أصبحت هذه المنظمات السياسية المسلحة طرفاً مفروضاً يرسم الواقع في عملية الاستقطاب المتضادة على نحو واسع، والتي انتهى إليها من جديد النظام العربي بشقيه الرسمي وغير الرسمي.
وقد وصل هذا الاستقطاب الانقسامي في المشهد السياسي العربي إلى ذروته إبان الاعتداء الصهيوني البربري والوحشي على قطاع غزة والذي أعاد خلاله معسكر الممانعة حركة اصطفافاته ورفع سقف وقوة حضوره واستخدم كل طاقاته وإمكاناته لاستعراض قوته ونفوذه وللظهور بمظهر الند للمعسكر الآخر الذي هو الآخر لم يتردد في توظيف كل مصادر قوته للدفاع عن رؤيته ومقاربته الشرق أوسطية.
وبمناسبة الرؤية الأمريكية الشرق أوسطية، فإن التحول الذي طرأ على الموقف السياسي التركي من الصراع العربي الإسرائيلي مؤخراً – وتركيا هي، بالمناسبة أيضاً، إحدى الركائز المهمة في ذلك المشروع أو تلك الرؤية الشرق أوسطية – قد أضاف جرعة أخرى من الإثارة التي سيطرت في الأسابيع الأربعة الأخيرة على مشهد الانقسامات العربية، خصوصاً وأن الموقف التركي المستجد جاء متناغماً بصورة لافتة مع موقف معسكر الممانعة.
وبلغت الإثارة ذروتها مع اشتداد ضغط جريمة العدوان على غزة سياسياً ومعنوياً وأخلاقياً على أطراف الأزمة – الإقليميين والدوليين – بما فيها الطرف الإسرائيلي، وأطراف الانقسام العربي معاً، حيث تسابق طرفا الانقسام العربي على تسجيل أكبر عدد من النقاط ضد بعضهما بعضاً أكثر من اهتمامهما بمصير ومآل الجريمة الإسرائيلية ومرتكبيها إصراراً وترصداً.
وقد كان ممكناً إسدال الستار على هذا التهافت العبثي لو أن طرفيه قبلا ببارومتر ‘نقطة التعادل’ (Break even) الاقتصادية الرياضية المعبرة عن لا خسارة ولا ربح، والتي ابتدرها على نحو فاجأ الجميع العاهل السعودي الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود في افتتاح القمة الاقتصادية العربية الأولى التي عقدت بدولة الكويت خلال الشهر الماضي، حيث أعلن في خطابه إلى القمة انتهاء الخصومة بين الفريقين ونجاحه فيما بعد في جمع شملهما، لولا أن تمكنت العصبيات ‘ومناقبيات’ الماضي ‘التليد’ من سكنات أفئدة كافة أطراف المشكل التأزيمي الانقسامي.
والنتيجة أن عاد الجميع من دولة الكويت بخفي حنين عاكسين فشلهم في استغلال الفرصة التي كانت مواتية في الكويت للتوافق على حد أدنى من الموقف المشترك الذي كان يمكن أن يساعد أهل غزة كثيراً في سرعة تضميد جراحهم ومعاودة إنتاج حياتهم الطبيعية اليومية.
نعم لقد هدأت زوبعة تجليات الانقسام العربي على النحو الضاج، السافر والمخجل، ولكنها هدأت فقط لتعود إلى ملاذاتها وكواليسها وزواريبها الخلفية ما من وظيفة لها سوى تعطيل كل فرصة وحجب كل بارقة أمل تلوح في أفق العلاقات العربية العربية.
الوطن 14 فبراير 2009