اختارت القوى الدينية العربية والإيرانية سياسة المجابهة، وهي سياسة نازفة للموارد المحدودة، لكن الفئات الوسطى التركية باتجاهها الديني – الإسلامي اختارت التنمية والسلام والتقدم.
بطبيعة الحال كانت هناك خلفية الإمبراطورية العثمانية والتحديث المتردد فيها، التي استفادت من الموارد الكبيرة التي أتاحتها تلك الهيمنة الطويلة على البلدان العربية والإسلامية الأخرى.
وحين خرجتْ تركيا الحديثة من الارتباط بهذه الإمبراطورية الشائخة، وابتعدت عن الدخول في المحاور الأوروبية المتصارعة على المستعمرات بدءاً من الحرب العالمية الثانية، حققتْ هذه السياسة تراكماتٍ اقتصادية وسياسية مفيدة لها، أهلتها لأن تنعطفَ بفهمِها الديني نحو آفاق الحداثة.
كانت الحرية الاقتصادية مقدمة لانتعاش الفئات الوسطى المختلفة، ورغم أن حكم الجنرالات كان حكماً دكتاتورياً، لكنه كان مركزاً على الناحية السياسية بدرجة أولى.
وحتى لو كان الحكم مؤسساً لأنظمة يمينية فاسدة وتابعة للغرب، لكنه كان مؤسساً كذلك لوحدة تركيا الحديثة الوطنية.
إن تركيا الخارجة من العصور الوسطى مثل بقية الدول العربية والإسلامية واجهت تحديين أساسيين: فثمة خطر المغامرة اليسارية المتطرفة الداعية لتحول تركيا إلى دولة اشتراكية عمالية تسحق البرجوازية، وكان هذا الخيار يجد صداه في العديد من المنظمات اليسارية المتشددة الصغيرة، وفي صفوف بعض قطاعات الجماهير الفقيرة المعدمة. وكان الخيار الثاني هو دولة رأسمالية حرة بشكل كلي وهو أمر لم ينضج بعد.
وتركيا دولة تسودُ فيها طبقة الفلاحين الفقراء، حيث تركيا هضبة كبرى واسعة شبه زراعية، ضعيفة الموارد.
ولم تحدثْ لهذه الطبقة إصلاحات عميقة، أو تحولات رأسمالية كبيرة، تحول فلاحي الريف إلى عمال.
كما أن القومية التركية هي قومية سائدة فوق الأكراد والعرب وغيرهم من القوميات الأقل عدداً، ولم تعط هذه القوميات حقوقها الكاملة، مما أوجد جماعات متطرفة رفعتْ السلاحَ وأنهكت تركيا كدولةٍ تتوجهُ للتنمية.
إن تحقق الديمقراطية بنفس المستوى الغربي غير ممكن تماماً بسبب ان الفئات الوسطى لم تستطع أن تقوم بالتحديث الصناعي وتوحيد السكان حولها، إلا في بعض المدن الرئيسية، وهو ما جعل هذه الفئات تبحثُ عن الجمهور الواسع المغذي لها بالتأييد وبالادخار المالي والاستهلاك.
وبين العلمانية الساحقة للتراث، وبين القومية ذات النزعة الأوروبية والوطنية المعادية للعمال والشرق(المسلم المتخلف)، حسب فهمها، تقلبت هذه الفئات عدة عقود، حتى استقرت على صيغة تحديثية وطنية – إسلامية – علمانية.
إن دكتاتورية الجنرالات قد أفادت في جوانب معينة مهمة، وهي إبعاد الفئات الوسطى عن التجارة بالدين، وهو أمرٌ كان يضعفها اقتصادياً وسياسياً وفكرياً، ومع انقطاع هذه الفئات عن التجارة بالدين توجهتْ للاستثمار الحقيقي وتحرير النساء ودفعهن بأعداد كبيرة للعمل المنتج، كما فتح أفقاً لفهم مختلف للتاريخ والتراث، وحتى الآن فإن هذا الجانب يبدو أقل الجوانب حضوراً وانتشاراً بين الأمم الإسلامية.
وعبر هذه العقود فإنها أحدثت تراكمات اقتصادية مؤثرة، قادتها لأن تبرز على المسرح السياسي بقوة، وكلما قاربت الحداثة والعلمانية تحقق لها نجاح أكبر.
ليست هذه القسمات السياسية والفكرية هي مجرد كلام مجرد، بل هي استثمار وأموال ومصانع وتجارة، فالتسييس الديني يدفع المجتمع للصدام مع الغرب خاصة، ومع المذاهب الإسلامية الأخرى ومع الأديان المختلفة، مما يقود إلى حروب نازفة للموارد.
وهو أمرٌ نلحظه الآن بوضوح شديد لدى الجماعات الدينية العربية والإيرانية والافغانية التي تتغذى بالصدام وتريد توجيه بعض الدول العربية للحرب، ولكن كان لدى الطبقة الحاكمة التركية خاصة العسكرية خبرة مؤلمة في هذا الشأن، ورفضت طوال عقود سابقة الانجرار لمسألة الحروب حتى في ظل سياسة حلف الأطلسي.
فالتراكم الاقتصادي في دولة فقيرة كتركيا ليس سهلاً، كما أن النزاعات القومية والسياسية والاجتماعية، تجعل هذا التراكم صعباً ومؤلماً، لأنه انتزاع لفوائض القيمة القادمة من المصانع وتوزيعها بأشكال غير متكافئة بين الطبقات. وقد جعلتها سياسة السلام هذه تكبر على مسرح المنطقة، أكبر من دخول المسرح الأوروبي.
فلا تزال معاييرها للتقدم أقل من المعايير الغربية، ولا تزال بعضُ القوميات لا تتمتع بحقوقها، وهناك تفاوتات كبيرة بين مستويات المعيشة بين الأرياف والمدن الرئيسية. والمعايير الغربية ناتجة من ثورة صناعية على مدى ثلاثة قرون بينما التحديث التركي قصير نسبياً، فهذا تشرطٌ على تركيا فاقد للمقارنات التاريخية والنسبية في التطور السياسي.
وقد تحقق للنخب السياسية الراهنة حضور على مسرح المنطقة بقوة كبيرة، فتلك التبعية للسياسة الغربية بحذافيرها لم تعد مقبولة لديها، والخدمة للسياسة الإسرائيلية صارت عاراً مرفوضاً، وتحرر السياسة الخارجية من هذه الوصمة صار أمراً شعبياً.
لكن هذه النخب كذلك لم تنجر للسياسة المعادية للسلام، ودعت حماس أن تحذو حذوها في وعيها السياسي، لكن حماس نتاج مجتمع متقطع، لم يعش مستوى حريات طويلة، ولم تنشأ فيه فئات وسطى مهمة، ولا عمالة تقنية رفيعة المستوى، وغزة أشبه بجيب جغرافي ملحق بعدة دول، وهي ذيل سياسي لدول متنفذة في المنطقة وأقل من تنظيم مستقل.
وهكذا كان الحضور الحكومي التركي مفيداً للعديد من القطاعات، فقد أوضح بأن السياسة العلمانية الوطنية ذات الجذور الإسلامية ليست انقطاعاً عن مهمات السلام والتحرر والتقدم.
أخبار الخليج 13 فبراير 2009