«التقى رجلان عند موقف الباص، لم يُسلم أي منهما على الثاني، ولم يبتسم أي منهما للآخر، كان كل منهما يروز الثاني بنظرة حادة. إذا جلس أحدهما على المقعد قام الثاني ونظر نظرة شزرة، ولا يلبث الواقف أن يتعب، فالشمس حارة وطاقة الصبر والأناة استهلكها العمل فيجلس، ويقوم الجالس وينظر نظرة قاسية ويدير ظهره. لم يصل الباص إلا وكان كل منهما يتمنى في سره سحق الآخر، كما يسحق صرصور تحت قدم حانقة».
هذا ملخص قصة قصيرة للكاتب السوري محمد إبراهيم الحاج صالح، وهي بامتياز قصة عن سيكولوجيا الإنسان المقهور، بتعبير د. مصطفى حجازي، والمقصود به الانسان الذي يعوض عن القهر الواقع عليه بابداء كراهية، أو قهر مبطن ضد نظرائه من الناس المقهورين أيضا.
وهي فيما نرى سيكولوجيا المواطن العربي البسيط على امتداد رقعة هذا الوطن الكبير، المواطن الذي تسحقه الأزمات المعيشية وتطحنه دوامة الحياة القاسية، وتهدر كرامته وهو يريق ماء وجهه مرات في اليوم الواحد جريا وراء تأمين لقمة العيش له ولأطفاله، في أوطان تبدو الآفاق أمامها مسدودة، حيث تتدحرج نحو هاوية المزيد من الأزمات.
للكاتب الكبير الراحل محمد الماغوط مقالة صحفية ساخرة، يحدد فيها التضاريس الجغرافية للعالم العربي ويسمي معالمها من جبال وأنهار وسهول ومدن وقرى وأحراش، ثم يعرج على وصف الكائنات التي تعيش في هذا العالم العربي من الجمل إلى الحصان إلى الحمار وسواها من حيوانات، واصفا كل واحد منها بما يميزه، وفي نهاية مقاله يصل إلى الإنسان العربي فيكتب: وعاش هنا الإنسان العربي.
أراد الماغوط من وضع الأمر في صيغة الماضي القول بأن هذا الكائن من الخليقة المدعو المواطن العربي قد انقرض.
هذا نوع من الكوميديا السوداء، ولكنها كوميديا مأخوذة من هذا الواقع، مترعة بمآسيه ومتشربة بطعم العلقم الذي ينضح به. إن ما فعلته التحولات العمياء التي شهدتها المجتمعات العربية على مدار عقود قد أدت إلى سحق هذا المواطن وتغييبه وإهدار كرامته، وتفريغ عالمه الروحي وتجويفه.
علينا بعد رؤية هذه التحولات أن نفهم هذا الحال من الخيبة واللا مبالاة واليأس والحياد الواضح من قبل هذا المواطن تجاه ما يجري حوله من أحداث جسام. ما الذي يستطيع هذا المواطن العربي أن يفعله وقد فقد هو نفسه الإرادة والإحساس العالي بالكرامة، وعلينا بعد هذا وذاك أن نفهم، وربما نتفهم، طبيعة ردود الفعل العفوية على هذا الوضع، حين تأخذ الطابع العبثي وتبدو من غير رؤية أو هدف أو مشروع، وان وجد هذا الهدف فانه غالبا ما يكون معلقا في الهواء، معزولا عن الزمان والمكان.
الهزيمة ليست هي تلك التي تتكبدها الجيوش في معارك القتال. الهزيمة الحقيقية، الكبرى، هي الهزيمة الداخلية، هزيمة الإنسان الفرد حين تنخر النفوس واحدة بعد الأخرى وتصيبها بالخراب وفساد المعنويات.
وجوهر كل ما يجري هو الوصول بهذا المواطن البسيط إلى هذا المآل البائس، وان تحقق ذلك، لا سمح االله، فان الظلام سيطبق علينا من كل الجهات.
صحيفة الايام
12 فبراير 2009