توجه الساردُ – المؤلف في رواية أرض السواد لعرض فترة نهوض تحديثية في حياة العراق، بجعل داود باشا بؤرة الروي الشخوصية المركزية في هذا العرض الروائي الواسع، وهو أمر جسد استعادة الإقطاع المركزي السياسي العراقي دوره القديم، وهو أمرٌ مماثل كذلك لما كان يجري في مصر خاصة عبر دور محمد علي باشا، أي أن العملية لم تكن محض لعبة شخصية، بل كانت عملية صراع اجتماعية كبيرة، تقودها شخصياتٌ من النظام القروسطي التقليدي بهدف إجراء تحسينات على نظامٍ مهترئٍ مفككٍ عبر دور قوي مركزي للدولة والجيش خاصة.
وكان هذا يجري في لحظة كانت السلطة المركزية في اسطنبول العاصمة للخلافة تقوم بمثل ذلك عبر خطوات مترددة ضعيفة، فيما كانت الدول الغربية تتوجه نحو السيطرة الاستعمارية على العالم، فظهر ذلك بشكلٍ أولي وقتذاك، وكانت السيادة على الدول الغربية تتراوح بين فرنسا الثورة المجهضة، وبريطانيا قائدة المعسكر الغربي المنتصرة والمتوسعة.
فنجد في الرواية عدة تيارات سياسية تتغلغل أحداثها وشخوصها، فيمثل داود الشخصية العراقية الوطنية النهضوية الساعية لإعادة تحديث المجتمع عبر مستواه العسكري البيروقراطي الشمولي، فهو متآمر دقيق، ومخطط ماهر للعمليات السياسية والعسكرية، وهو يبدو وحيداً في هذه البؤرة، في حين يجهل كلٌ من حوله وكل من يعارضه أو يؤيده أهدافـَهُ الحقيقية، فهو يتحركُ في ظلمةٍ سياسية متلحفاً بأرديةٍ متعددة، ولا تظهر هذه النهضوية الغامضة إلا من خلال فلتات تندفعُ من أفواهِ بعض الشخصيات الواعية، كالقنصل البريطاني الذي يرى تحولات جديدة تجري في بغداد كتبدل المؤسسات الحكومية وتنظيمها الدقيق ونمو التجارة الواسع، وإن كانت ملاحظاته تلك التقريظية لا تنفي كراهيته لداود، ومعارضته له لأنه يقوم بتقليص الوجود المتنفذ للقنصلية البريطانية، التي تريد أن تهيمن على بغداد والجنوب العراقي خاصة، مستخدمة شخصيات عديدة وأدوات حربية استعراضية ومقدمة مشروعات للسيطرة التدريجية على النظام الوليد، ومتغلغلة في خريطة العراق سكاناً وأقاليم وثروات أثرية خاصة.
وبهذا فإن داود النهضوي يتلبس بداود الاستبدادي الشرقي، وتغدو النهضوية شكلاً للاستبداد المتنامي الشخصي، ولا يكشف الساردُ – المؤلف هذه التناقضية، نظراً لالتحاق عملية السرد بما هو طافحٌ تاريخياً، فالشخصياتُ أدواتُ عرضٍ للتاريخِ الرسمي، كذلك فإن الشخصيات الشعبية لا تعرفُ أهدافَ الحاكم داود، ودلالاتِ أعمالهِ، لكون هذه الأعمال لا تتوغلُ في حياتِها شبعاً وتقدماً، بل تجد نفسها مُلحقة بخططهِ وأدواتِ حكمه، فاذا دعاها لحربٍ قام رجالهُ بحملاتِ تجنيدٍ للعامة، وإذ كان هذا مظهراً يدل على وطنية جنينية متصاعدة، فإن العامة والمجندين خاصة لا يعرفون الأهداف الجيدة لمثل هذه الحروب التي تواجه العصابات والقبائل المتمردة على السلطة المركزية.
وأكثر ما يزعج العامة هو الارتفاع المستمر لأسعار المواد المعيشية، لكنهم يجدون الحاكم داود مهتماً بقوة بهذه الأسعار المرتفعة وبموجات الغلاء الخطرة التي تـُسيس في بعض الأحيان من قبل الاستعمار البريطاني الرابض استعداداً لسيطرته القادمة، وداود يجابهُ الغلاءَ بإرادةٍ قوية وعبرِ شحنِ المواد من البلدان الأخرى وبأشكال مبتكرة تدل على حنكته السياسية.
وهذا الأمر كان يريح العامة ويجعلها تتعاطفُ مع الوالي، وحين يقوم القنصل البريطاني بتحديه لداود ويرفض أن تتم مساواة القنصلية ورعاياها برعايا الدول الأخرى، ويعلنُ العصيانَ، فإن داود يحاصر القنصلية، ويجوعها، وحين يزداد القنصل تحدياً ويضع قوىً عسكرية خاصة سلاحَ المدمرة الرابضة عند القنصلية بمواجهة دار الوالي، فإن داود يطلقُ يدَ الناس ضده، فما كان منه سوى الرضوخ لإرادة هذا الوالي المستقلة، جنين الوطنية العراقية الحديثة.
لكن هذه الوطنية النهضوية تبقى مجردَ أفعالٍ سياسية متقطعة، لا تستطيع بطبيعة القوى السائدة على السلطة في الولاية العراقية أم في المركز العثماني، أن تكون أكثر من ذلك.
ومن جهة أخرى فقد حاول الساردُ – المؤلف أن يتجاوز محدودية الفعل النضالي في هذا العصر واقتصار الحركة الاجتماعية على الارستقراطية الانكشارية والسفارات الأجنبية، بأن يوسع دور العامة العراقية، فأفرد فصولاً كثيرة لها، ونقل أحاديثها، وتعليقاتها السياسية وصراعاتها الشخوصية المحدودة، التي كانت بمثابة الهامش على المتن، وقد ارتفعت بعض الشخوص كالضابط بدري إلى مستوى تلك الارستقراطية العسكرية، وبدأت شخصيات شعبية بأخذ مستوى تشخصي مرتفع، لكن بما أن الرواية تمثل تاريخاً منجزاً قد انتهى صنعه، وختم بالشمع الأحمر سياسياً، فالإضافة الشعبية فيه لا تصل لتغييره.
كذلك فإن هذا الهامش الشعبي جسد حركة الفئات الشعبية الهامشية في العاصمة، وغاب عن جمهور الاعتراض والحركة المتمثل في الفلاحين والقبائل البدوية، فتركز السرد على متابعة دور المركزية السياسية وأهميتها لا دور الطبقات المنتجة الوطنية وفاعليتها والعناصر النضالية المتراكمة من جهودٍ لعصرها وللعصر التالي.
وهذا يقود إلى سردٍ مصورٍ للحركة الفوقية للطبقة العليا وهي حركة مهمة وذات تأثير كبير، ولكنها غير تاريخية مستمرة ومطلقة، وما يمثل السيرورة التاريخية الباقية هو فعل تلك الطبقات الشعبية المُغيّبة في السرد الروائي.
لقد نـُظر لتلك التمردات للقبائل العربية باعتبارها نشازاً في رواية تسرد نمو نظام مركزي، لكن ذلك النشاز هو الذي سوف يسود، فهؤلاء المتمردون سوف يكونون المدن وينتشرون في العاصمة ثم يحكمونها بين بناء وخراب.
إن خيوط السيرورة التاريخية غير ممكنةٍ في سردٍ روائي تسجيلي أو فوتغرافي، لأنه يقف عند الزمان والمكان المتجمدين، ولا يقرأ تطورهما، ولا يأخذ قوى الغالبية الشعبية كصانعة للتاريخ ولا يرى تراكمية نضالها، رغم أنه يحاول كشف هذا التاريخ، وهو متعاطفٌ معها ويبرز بعضَ ومضاتها، فيجمدُ سيرورة التاريخ وهو يريد أن يراها ويجسدها فناً.
صحيفة اخبار الخليج
11 فبراير 2009