لا تختلف تقنيات رواية (أرض السواد) عن تقنيات مدن الملح، وهي تقومُ على ما تتيحه نظرة تسجيلية في عملية الصياغة الروائية.
فالراوي السارد المتواري يقدمُ الأحداثَ والشخوص الكثيرة المتشعبة التي تتوالد بشكل عفوي غالباً من خلال التاريخ.
إن الأحداثَ – الشخصيات الشديدة الارتباط، فلا توجد شخصيات خارج الأحداث، فهي إما مشاركة فيها وإما معلقة عليها، كما أنه لا توجد أحداث من دون شخصيات.
ليس ثمة مخطط لتجسيد رؤية للتاريخ، رؤية تنفذ في أعماقه، لأن الرؤية التسجيلية تقف عند حدود المرئي، وإذا كانت المواد التسجيلية الخاصة بمكان وزمان (مدن الملح) تتيح بعض ذلك، فإن زمان ومكان (أرض السواد) لا تتيح تقديم شخصيات معارضة محولة للواقع، رغم ان الشخصيات المعارضة والتحويلية تبقى عند مستوى الرمز والحالات الوامضة في (مدن الملح).
إن المنهج التسجيلي يقف عند المستوى السياسي للبنية الاجتماعية، وهو يأخذ ما هو رسمي ومسيطر فيه، لا يقدر أن يخترقه ليتوجه للمستويات الأخرى من البنية الاجتماعية، لأن ذلك يعتمدُ على منهجٍ فني آخر، يلغي التسجيلية ويستبدلها بعملية إعادة الخلق، التي تعتمد على التخييل والقراءة العلمية معاً.
وبما أن النظرة هي التسجيلية، فإن محاولة السارد لإدخال نظرة عصرية تحويلية للواقع تغدو غير ممكنة، فيبقى على مستويي العصر والمجتمع المرويّ عنهما.
فيحاول أن يغلغلَ نظرتـَهُ عبر عرضٍ موسعٍ كمياً للشخوص والأحداث، لكن التوسعَ الكمي يرهلُ الرواية، ويضيفُ لها لوحات وفصولاً من الممكن اختزالها، أو حذفها.
وإذا كانت الشخصياتُ التاريخية الحقيقية من المستحيل التحوير والإضافة إليها حسب النظرة التسجيلية، فإن الشخصيات غير التاريخية يمكن تشكيلها وبثها وتوزيعها في السرد الروائي الواسع، حتى لا يقتصر الأمر على ذوي النفوذ المسيطرين على التاريخ الرسمي المستمر.
وإذا كانت السيطرة لهذه الشخصيات الحقيقية العليا، فإن حراك الشخصيات المتخيلية غير الحقيقية الشعبية يغدو هامشياً كذلك رغم وفرة كلامها وثرثرتها وأعمالها وشخوصها التي يقترب بعضها من الصعود على مسرح التاريخ المقتصر على السادة.
سرد التاريخ روائياً بشكل تسجيلي يجعل من غير الممكن إعادة النظر في التاريخ المروي السائد، ولهذا فإن التقنيات تعتمد على العروض التجسيدية المباشرة:
(كان يمكن لداود باشا أن يعجل بدخول بغداد أو أن يتأخر، تبعاً لتقديرات عديدة. لكن ما كاد يعرف بخبر إصابة حمادي ونقله إلى القلعة، حتى تغيرت الأمور، ثم أخذت تتسارع)، ص54، ج.1
هذا سرد تقديمي عام، لا يضع الشخصية في بناء مشهدي محدد، لكنه يضعها في إطار عام متحول كذلك، وسرعان ما ينتقل بعده السارد إلى نتائج هذا السرد التقديمي:
(أما ما وقع في القلعة بعد ذلك، خاصة في الليلة التي وصل إليها سيد عليوي، فإن الناس يختلفون، ويصل الخلاف، بعض الأحيان، إلى درجة التناقض)، ص 54، ج.1
إن السارد هنا لا يقدم القصة الاقتحامية لبغداد بشكل كلي، بل يوزعها، ويجعلها متقطعة، ومثيرة، مستغلاً هنا تعدد الروايات، وهنا تنبثقُ أقوالٌ وحتى شخصيات جديدة ولن تستمر كذلك:
(مختار باب الشيخ، عبود الحاج قادر، وهو في الأحوال العادية، رجل متزن بسلوكه وكلامه، نقل عن بعض جنود القلعة، وقد غادرها إلى محلة باب الشيخ في اليوم الثالث لدخول داود باشا إلى بغداد، إن سعيد باشا تعرض لاطلاق النار، في محاولة لقتله، وإن حمادي هو الجاني)، ص55، ج.1
استغلال المرويات الشعبية، والمجيء بشخوص مفاجئين رواة ومعلقين، يتمان في إطار تسجيلي تختلط فيه الوقائع الحقيقية والشائعات لكن هنا فإن أقوال عبود الحاج مراد التي أثارت شيئاً من التشويق، لا قيمة لها مثل شخصيته التي ستذوب وكأنها لم تكن.
وهكذا فإن سلسلة من التعليقات ستضافُ إلى هذا السرد لواقعة واحدة هي قتل سعيد باشا الحاكم السابق لبغداد: (يقولُ رجالُ الغنام بانفعال..)، (وفي المحلات الأحرى..)، (حين تروى القصة بهذا الشكل. .)، (سكان محلة الميدان يؤكدون.)، (كان يتم تداول هذه الروايات …) إلى آخر هذه التعليقات.
ويتتبع الساردُ ذلك بحوارات مطولة في الشوارع والمقاهي حول تلك الحادثة. لكن تلك الحوارات لا تمثل سوى صدى عملية الاغتيال.
ولكنه في فصل سابق يقدم لنا الحدث وشخصية عليوي القاتل عبر مشهدية متصاعدة؛(ما كاد ينتصف الليل حتى وصل إلى القلعة. بدا لكل من رآه كأنه خائف ومُلاحق. أبلغ قائد القلعة أن لديه أخباراً هامة لا بد من إبلاغها إلى سعيد باشا)، ص35، ج.1
هنا نجد المشهدية السردية المتصاعدة، وهي المشهدية الموضوعية التي تجسد التاريخ أمامنا من دون تعليقات السارد المباشرة، وكثيراً ما يحفر فيها عبر الذكريات، بالعودة السردية للماضي.
التقديمات السردية العامة، والبُنى المشهدية المتصاعدة والمقطوعة بالعودة الزمنية للوراء، والحوارات العامية الواسعة، واستخدام المقتطفات التاريخية، المبثوثة بين فقرات السرد، والتنوع الهائل للشخوص، والجمع بين ما هو حقيقي ومتخيل، وبث الموروث العامي في ثنايا الحوار وخاصة استخدام كمية كبيرة من الأمثال والحكم، وتقطيع الفصول بما يتماشى مع حركة الزمن التاريخية الصاعدة، وتبدل الأمكنة التي تغدو مرتبطة بحركة الشخوص والأحداث والتي لا تتجاوز العراق الأوسط خاصة، مركز السلطة الجديدة، بينما الجنوب والشمال يظهران بشكل محدود بسبب الانتفاضات والدسائس.
وعموماً لا توجد تقنيات جديدة ملفتة في الرواية.
رغم ان ضخامة الرواية وتوسعها الهائل تشير إلى قدرة كبيرة من الروائي عبدالرحمن منيف على تصوير عصر ما، فإن مسائل الاختزال والتكثيف كانت ضرورية، لكنها تغدو غير ممكنة في منهج يتوجه للتصوير الفوتغرافي الموسع لعصر، لا للتصوير النموذجي، الذي تمثله الرواية الفنية، وهو ما فعلته الرواية العربية في أقطار أخرى.
وهذا في تصوري جزء من إشكالية الرواية في الخليج والجزيرة العربية المتأخرة في التطور، ولكن بوجود عبدالرحمن منيف في دول نضجت فيها الرواية فإنه حاول عرض التجربة البكر للمنطقة الخليجية – العراقية، بأدوات تعود لمستوى رواية تقليدية استنساخية للواقع، ولكن عبر الابهار والتوسع الكمي في هذا العرض.
صحيفة اخبار الخليج
10 فبراير 2009