عندما خلّد الفنان الاسباني بابلو بيكاسو بلدة صغيرة أو كما قيل أنها مجرد قرية باسكية هادئة دفعتها ظروف الحرب الأهلية والحكم الفاشي الاسباني إلى الدخول في مواجهة ومقاومة باسلة، غير أنها لم تكن قادرة على مصارعة السماء، تلك البلدة الصغيرة ربما لم يكن العالم يعرف أين موقعها على الخارطة في تلك الفترة ولا حتى الآن، ولكن الكارثة والمجزرة المهولة فتحت أذهان العالم كله على مدى وحشية النازية الألمانية، التي هرعت مسرعة إلى مساعدة حليفتها الفاشية الاسبانية في عهد فرانكو. فهل اهتز بيكاسو لتلك البلدة وكاد يبكي أم انه اختزن حزنه العميق ومشاعره وانفعالاته بقوة لكي يعكسها في تلك الخطوط البيضاء والألوان الرمادية، نعم لم تستحق اللوحة غير ذينك اللونين ولكنها أبرزت العنف والوحشية للغزاة إزاء أبرياء من النساء والأطفال والشيوخ، وهم يتطلعون بعيونهم لتلك الوحشية، فماذا فعل بيكاسو وهو يهز مشاعر العالم في تلك اللوحة لتصبح لوحة عالمية خالدة تطارد الضمير العالمي وهو يقف حائرا ومتسائلا، وفي ذات الوقت يكتم غضبه واحتجاجه على تلك المجزرة الكبرى؟ إنها صرخة الاستغاثة والاستجداء نحو سماء ووحشية لا ترحم لأم تحتضن وليدها.
من تستوقفه اللوحة أو يقف أمامها حائرا يشعر من أول لحظة بمدى الحزن والانفعال الداخلي والقوة والعنف النافر، ليس في ذلك الخنجر المغروس في عنق الحصان ولا في قلب الإنسان وهو يواجه عنفا متعددا، وفي قرون الثور المتوثب، ذلك الرمز الدائم للعنف والدم والموت في ثقافة اسبانيا، لتلك الأفواه المفتوحة وهي تصرخ بقوة في عالم محاط بالسوداوية والرماد، القادم من القنابل والقذائف والرصاص، بحيث لم ترحم أحدا في مشروع فاشي خفي لإبادة البلدة برمتها وإحالتها إلى ركام. كل الوجوه نحو السماء في نفق ارضي تنبعث منه الإضاءة الباهتة كحياة يومية، إذ يخاف الناس الخروج إلى الشارع، الجميع في اللوحة يصرخ ويبكي في لحظة الموت الأخيرة، ففي تلك الأيادي المفتوحة للسماء، الأيادي المستجدية بالاستغاثة المستحيلة في عالم الحرب والموت والوحشية. كل شيء لحظتها في اللوحة يبعث على اليأس والخوف والعنف والدم والقتل وكل رموز الوحشية. فماذا تبقى لنا من تلك الخطوط الكابية الكئيبة التي في عمقها تمنحنا سرا بقوتها الإنسانية حتى في لحظة أخيرة من وداع بلدة بكاملها من الخارطة. شيء واحد تركه لنا بيكاسو وظل مثار نقاش لدى النقاد الأسبان والعالميين وحاروا حوله. ما الذي كان يرمز إليه الفنان في تلك النافذة في زاوية اللوحة العليا من اليمين، بقعة يدخل منها الضوء في عالم معتم يختبئ متحاشيا الموت، إذ يبحث الجميع عن المخابئ اليائسة فلا شيء إلا التشبث بالبقاء في لحظة صراع بين الحياة والموت. الجميع وجد في تلك النافذة التعبير المتبقي عن الأمل المفتوح والضوء القادم من هناك، حتى وان عاشت جيرنيكا ساعات الرعب، فمن تحت الرماد والركام تولد الحياة. لم تكن غزة في أيامها السوداء بالأدخنة الفسفورية البيضاء إلا غيرنيكا عالمية معاصرة تنهض من قبرها المتوحش بعد عقود من نسيان العالم المأساة الاسبانية، وكأن الحياة تستعيد كوارثها ومآسيها دون توقف، تنتزعنا من سعادتنا العابرة، سعادتنا المتطلعة للسلام والطمأنينة والأمان. ولكن من أين يأتي ذلك الأمان وورثة القتل مازالوا أحياء يتناسلون من ثدي الموت لذة متناهية، حتى وان استغاث الأطفال والنساء والمدنيون الأبرياء بهم في لحظة عجزهم عن المواجهة، فليس العزل من السلاح قادرين على القتل ولكن كل ما يملكونه في تلك اللحظة هو استغاثة الغضب والنداء لسماء رمادية ولعالم ما زال ضميره حيا. ربما تبدو هذه اللحظة لمن لا يفهم عمق الحياة وأبعادها وشفافية الكون إن ريشة الفنان ليست مهمة كسيارة إسعاف ولا حتى إبرة طبيب أو قطعة خبز ولحاف، تبدو الإجابة بنعم من حيث اللحظة ولكن القيمة العظمى هي التي تجعلنا أحياء على قيد الحياة دائما، ففي رؤى الفنان للحياة ديمومة أطول وحية ابعد من لحظة الخبز والدواء، فما يبقى في الذاكرة حاضرا ولأجيال عديدة هو ذلك العمل الفني الخالد الذي يفضح الوحشية. اليوم ما أحوجنا إلى فنان «عبقري» يتجاوز كل خطوط تلك المساحة الرمادية ويبدع لنا لوحة جمالية تنفث صرخة الموت والكراهية التي يحملها دوما أعداء الحياة. ما فعله الطغاة والعنصريون والدمويون الجدد في غزة علينا أن نلاحقهم بكل الأسلحة، فقد ظل بيكاسو يلاحق فرانكو أينما كان بتلك اللوحة التي أيقظت ضمائر العالم وألهبت فيهم روح الاشمئزاز من عبثية العسكر والفاشية، التي تغتال الحياة بكل بساطة وجبن. كل ما فعله بيكاسو انه حمل لوحة جيرنيكا معه أينما ذهب، حتى وان باتت بلدة جيرنيكا رمادا وركاما. اليوم تبعث جيرنيكا بتعزية عظيمة لتوأمها العربي، لتلك المنطقة المنسية في شرق المتوسط، التي حرّكت مجزرتها كل العالم، وكل ما تبقى من تلك الوحشية هو استلهام الدرس التاريخي بكيفية ملاحقة مجرمي الحرب بشتى الطرق.
صحيفة الايام
10 فبراير 2009