كان التسارع في خطى الجبهة الشعبية لتحرير عمان والخليج العربي يتضح على صعيد التبدل المستمر لمسميات التنظيم ونطاق عمله، فمن ظفار حتى عمان كما اضيف كذلك تحرير دول الخليج. فأية قوة عسكرية تستطيع تحرير هذا الخليج من شماله إلى جنوبه وبتلك المجموعات المسلحة البسيطة؟ هذا جزء من خيال سياسي سوف يواصل خلق هذا التخيل المستمر. أما على صعيد البرامج فيتضح تناقض الأهداف الاجتماعية الوطنية والأهداف السياسية الكبرى. ففي حين تركز هذه البرامج في البدايات على مهمات بسيطة وأهداف اجتماعية معقولة كإصلاح الأوضاع المعيشية والخدمات، فإنها بعد ذلك تقفز لمهمات سياسية كبرى لا تقدر عليها حتى الدول. كان المؤتمر الثاني للجبهة في(حمرين) الذي تم فيه إقصاء المجموعات الوطنية المعتدلة قد عُقد في سبتمبر 1968، وهيمن عليه أصحاب الجمل الثورية: فالجبهة كما يقول البيان تلتزم (بنضال الجماهير العربية في شتى أرجاء منطقة الخليج العربي المحتل، والالتزام بالاشتراكية العلمية، واعتماد خط جذري في مواجهة الاستعمار والرجعية يقوده حزب ثوري يستلهم ايديولوجية البروليتاريا ويستقطب كل الطبقات الثورية لخوض نضال طويل المدى ضد الاستعمار وتبني شعار الكفاح المسلح بصفته شكل النضال الأساسي، وعبر العنف الثوري المنظم، وإدانة(القيادة البرجوازية) للحركة المتمثلة بتنظيم الكويت وتعليق عضوية هذا التنظيم …). مع ذلك فإن المهمات الاجتماعية في ظفار لا تتعدى (تحرير الرق وتنظيم الزراعة وتحقيق المساواة بين المرأة والرجل). أناسٌ تعمل من أجل إلغاء الرق وفي الوقت نفسه تريد بناء الاشتراكية. كان هذا البرنامج يعني عدم الإدراك السياسي وزج جمهور في مغامرة خطرة محفوفة بالمخاطر الجسيمة، كما أنه يطرح أسئلة سياسية لاتزال الإجابة عنها محدودة، فقد كانت القوى السائدة في الخليج تعيدُ تنظيم أنظمتها بغرض التغيير، وتتوجه لشيء من التحديث والاستقلال، وكان الاستعمار البريطاني قد أعلن بدء انسحابه في الوقت نفسه الذي صدر فيه بيان حمرين السابق الذكر. هل كانت الأجهزة الخفية تعمل لضرب الجماعات المثقفة التنويرية والإصلاحية في الخليج ودفعها لمغامرات للقضاء عليها وتخويف الأنظمة الخليجية من اليسار ومن الديمقراطية؟ خاصة أن هذا كله كان يجري والاستعمار البريطاني يتقلص، ولا يريد زوال ركائزه. لا أحد يعرف الإجابة حتى الآن، لكن العداء
للجماعة القومية الوطنية في الكويت وغيرها من الجماعات الوطنية المعتدلة، كان يشير مهما كانت الدوافع إلى إزالة الممكن السياسي الوطني الوحيد في ذلك الوقت الذي كان يمثل قوى صغيرة لكنها ذات صوت قوي فهي التي أسست نفسها وحصلت على مساندة شعبية مؤثرة حينذاك. كان يعاضد هذا الصراخ الثوري مجيء جمهورية اليمن الشعبية الديمقراطية، التي ساندت الكفاح المسلح في ظفار، وتلقي مساعدات من جمهورية الصين الشعبية التي غيرت مواقفها بعد زوال حكم عصابة الأربعة، ومجيء حكم الانفتاح الرأسمالي – الشيوعي! فقد كانت أول الأطراف الدولية التي ساندت جماعة ظفار ثم تخلت عنها نظراً لما وجدته من مزايا اقتصادية في التعامل مع دول الخليج وإيران. لكن أفكار ماو تسي تونج ظلت لدى الجبهة الشعبية لتحرير عمان والخليج العربي. وفي حين كان الكتاب الأحمر يتم تدريسه للرعاة والفلاحين في ظفار كانت الصين تقيم علاقات قوية مع نظام شاه إيران الذي بدأ القيام بعمليات عسكرية ضد ثوار ظفار وتمكن من سحقهم والاستيلاء على طريق حمرين الذي كـُتب في أحد مواقعه ذلك البرنامج السالف الذكر. بطبيعة الحال كان الوقوف مع العمال والفلاحين والبسطاء مفخرة للمناضلين، ومهما كانت الخسائر في ظل النضال الوطني الواقعي فهي مبررة، لكن من الضروري أن تكون معقولة وتؤدي إلى تراكمات، كما يُعاد النظر في أطروحاتها وبرامجها، لا أن يتم تكرارها. يمكن تلخيص هذه التجربة بأن طرح برنامج بذلك المدى هو عملية خارقة تتجاوز حتى مستوى بلدان رأسمالية متطورة، وقد حدثت تراجعات على مستوى تمثيل الجبهة للمنطقة فقلصت حدودها وتركزت في بلد واحد، لكن محتوى البرنامج القافز للمراحل، والمعتمد على شكل صعب ومخيف وهو شكل المواجهة العسكرية الكاسحة، الذي يريد سيطرة طبقة غير موجودة في ذلك البلد وهي الطبقة العاملة، كل هذا يعبر عن استمرار المراهقة السياسية وعدم تغيير محتواها. كما أن إعادة التحولات في دول الخليج تمثل برنامجا معاكسا قويا مؤيدا من دول الغرب وبعض الدول العربية المؤثرة، وهو الأمر الذي انعكس على التسلح، ففيما كان الجيش المواجه لجبهة ظفار يزداد قوة وتنضم إليه طائرات كثيرة متعددة الأنواع، ويحصل على معدات متطورة، وينضم إليه المنقسمون والمنشقون عن الجبهة، والمواطنون العاديون، كانت جماعات الجبهة تتحلل وتعجز عن تحقيق انتصارات وتتخلى عن مواقعها، وتـُحاصر في مؤنها وإمداداتها، حتى تتحول إلى جماعات خارج الحدود تضربُ من الخارج، لكن الدول المساندة تتخلى عنها، وتـُمنع من إطلاق النار. وكانت الايديولوجيا اليسارية المتطرفة من جهة أخرى الرافضة للإسلام والعبادات الشعبية قد أسهمت هي الأخرى في انفضاض الجمهور عنها وتركها مجموعات صغيرة، وسلم الكثير منهم نفسه للجيش الحكومي وعمل معه ضد رفاقه السابقين.
صحيفة اخبار الخليج
8 فبراير 2009