كانت سنوات الستينيات تمثل نقطة تحول خطيرة في تاريخ الجزيرة العربية، وخاصة في الساحل الشرقي منها، حيث تفاقمت الصراعات بين شعوب المنطقة والاستعمار، وتغلغلت قوى دولية فجأة في الجسد المضرج بالدم في مناطق التوتر فيها، وكانت البقعة الملتهبة جدا هي (ظفار)، التي لم تكن على الخريطة السياسية العربية ثم فجأة تصدرتها وبعد هذه الفترة غابت كأنها لم تكن ملء السمع والبصر.
كانت هذه المنطقة الضائعة بين الجغرافيا والأساطير، تجثم في جنوب الجزيرة العربية بين اليمن وعُمان، أهلها يتكلمون بلغات حميرية قديمة، انقطعت صلاتـها بالعربية، وهي منطقة مغايرة كذلك في طبيعة المناخ والتضاريس بالجزيرة العربية، وهي كذلك تمثل بشرا قفزوا فجأة للثورة المسلحة بشعارات (شيوعية)، فكأنها تمثل نيزكاً سقط من السماوات العلا على التاريخ المعاصر.
قررت هذه المنطقة الثورة بعد حادث عرضي بين مجموعة عسكرية وشركة تنقيب عن النفط، وكانت ثمة تنظيمات تشتغل في الأرض البكر، كلها تتركز في منطقة ظفار، وما لبث الحادث العرضي أن تحول إلى حادث جوهري مفصلي تاريخي.
والحوادث التاريخية الخطيرة هنا تقوم على مثل هذه الحوادث العرضية البسيطة، فالحماسة وقلة التبصر تحولان الأحداث العرضية إلى لحظات تاريخية مفصلية.
كانت عُمان كلها في الواقع تتعرض لسوء إدارة قديمة، ولم يكن ثمة قهر خاص لظفار، ولكن كان الاستيراد السياسي لأفكار القوميين العرب إلى هذه البيئة المتخلفة قد لعب دورا في تصعيد فكر المغامرة لدى هذه الجماعات.
لم يكن القوميون العرب يدركون اختلاف مستوى البـُنى العربية، وأن القبائل (العربية) في أقصى الجنوب من الجزيرة العربية لا يمكن أن ترتفع فجأة لأفكار صُنعت في الدول الغربية المتطورة، أو حتى لأفكار تم اختلاقها في دمشق وبيروت.
فما بالك إذا كانت هذه القبائل نفسها لا تقرأ، وإذا قرأت فإنها لا تقرأ العربية؟
لكن الاستيراد المناطقي كان يغذيه الحماس، وهو لا يعترف بالتضاريس الاجتماعية أو بالمراحل أو بالأمم وتنوع تطورها التاريخي، أو باللحظات الموضوعية الممكنة للتغيير.
فكانت جبهة تحرير ظفار (تكونت سنة 1963) هي نتاج لمعاناة معينة، للتخلف الشديد في منطقة، وكان يمكن أن تتحول إلى تنظيم إصلاحي بعيد النظر، يتوجه إلى الخطوات السلمية التدريجية، وهو كان واعدا بذلك، لكن أعضاءه لم يكونوا ذوي خلفية فكرية عميقة، فهم عرضة للرياح الحماسية بسبب الأمية الثقافية.
وهكذا ففي خلال شهور تم تحول هؤلاء الإصلاحيين المناطقيين، إلى شيوعيين يطالبون بالثورة البروليتارية الساحقة للبرجوازية.
ما الذي دفعهم إلى هذه التحولات الكبيرة في الفكر؟
كان هناك عدة أفراد يحلقون في الفضاء السياسي المجرد، ارتبطوا بقادة من القوميين العرب في بيروت ودمشق، وكانت الظروف في الستينيات في بلدان الشمال العربية بعد أزمات الأنظمة القومية تطرح ضرورة تجذير التحولات، ومجيء القيادات العمالية، لتحقيق الاشتراكية الجذرية.
ولم يكن ثمة فهم لهذه الاشتراكية الجذرية لا على الصعيد العالمي ولا على صعيد الدول العربية.
وكان عدم الفهم هذا بسبب المنزلق الذي دخلت فيه روسيا لتطبيق الاشتراكية وإزالة الطبقات والذي راحت تنسخه شعوب أخرى أقل تطورا، من العراق حتى اليمن، وفي مثل هذه الخيالية السياسية، كان يمكن بكل جدارة أن يطرح مثقفون في ظفار مسألة القفزة للاشتراكية حتى لو لم تتوافر أي مقومات حتى للنهضة البسيطة في ذلك الحين.
وهكذا في لحظة صوفية سياسية سحرية قرر بعض المجتمعين في مؤتمر في ظفار أن يتحدوا وهو خطوة حسنة، ولكن بأن يشكلوا جبهة لتحرير عُمان والخليج العربي كله.
وإضافة إلى القفزة على الخريطة الجغرافية السياسية، فإنهم قرروا الالتحاق بأفكار الماركسية ولكن على آخر طراز تمثل في شعارات ماوتسي تونغ وجيفارا وكاسترو وهم المعروفون بالوعي الفوضوي والمغامر.
كان هذا يعني في الواقع استمرار التجريب العسكري واستخدام العنف في بلد قبائل بسيطة هي بحاجة إلى أبسط الخدمات بدلا من القفزة للاشتراكية.
كان هذا يغذيه من الجانب الشعبي عدم وجود تطور للعلاقات الرأسمالية وحضور حياة تعاونية مشتركة بين الفقراء، وسيطرة العلاقات الاقطاعية حيث يهيمن شيوخ القبائل المتحكمة في المراعي والأراضي الزراعية على عموم القبائل الفقيرة وعلى العامة المنبوذة من المراكز القبلية الكبيرة.
وكان يمكن لبرنامج إصلاحي متدرج ذي خطوات سلمية من قوى سياسية بعيدة النظر أن يجنب المنطقة مثل ذلك التجريب الدموي.
لكن المغامرين كانوا أقوى في مثل وعي شعبي ديمقراطي غائب تماما، ولوجود مجموعة من الشباب الهائج عاطفيا وسياسيا، الذي يتوهم انه سوف يقفز للمسرح السياسي الكبير ويصير مثل ماو محقق الثورة وباني الوحدة الصينية.
وهو الرجل الذي في نهاية عمره كتب الكتاب الأحمر ككتاب ديني شرقي، بسبب عجز وعيه عن فهم تطور الصين، وأن الصين تحتاج إلى الرأسمالية الديمقراطية وليس إلى نظام القفزة الشيوعية.
(وسنرى بعد ذلك تداخلات مصير الصين وظفار وروسيا في شبكة معقدة متداخلة من التحولات).
صحيفة اخبار الخليج
8 فبراير 2009