تبدو الأرقام في هذا المجال مخجلة وباعثة على الخيبة, ليس فقط إذا ما قورنت بما تخصصه الدول المتقدمة, بل إذا ما قورنت بما تخصصه دول أخرى تعد دولاً نامية كالهند وباكستان وكوريا وسواها, بل إذا ما قورنت بما تخصصه إسرائيل له, التي أدركت منذ البداية أهمية مثل هذا البحث في الظفر بأسباب القوة. ورغم العدد الكبير للجامعات والمعاهد العليا في العالم العربي مجتمعاً, وفي كل دولة عربية على حدة, فان هذه الجامعات والمعاهد أشبه بأماكن تفريخ لعشرات الآلاف, لا بل مئات الآلاف من الخريجين, وان البحث العلمي بالذات هو في آخر أولوياتها, هذا إذا كان يعد من الأولويات أصلاً. لذا نجد أن خيرة الأدمغة العربية في حقول البحث المختلفة, سواء منها تلك العاملة في العلوم التطبيقية أو في العلوم الاجتماعية إنما تلمع وتتفوق في الجامعات ومراكز الأبحاث في البلدان الأجنبية وتحديدا في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية, حيث العديد من الأسماء ذات الصيت العالمي في مجال اختصاصها إنما هي أسماء عربية. ويدور حديث منذ سنوات عن موضوع البحث العلمي في البلدان العربية من زاوية أن العديد من مراكز الأبحاث في بلدان عربية إنما تعمل بتمويل من هيئات وجهات غربية, وينقسم الرأي بين مؤيد ومفسر ومبرر لهذه الظاهرة, وبين رافضٍ لها جملة وتفصيلا انطلاقا من القناعة بأن نوايا الممولين لا يمكن أن تكون بريئة تماما في الانفاق على أبحاث ميدانية في البلدان العربية, وان بعض هذه المراكز كثيرا ما أثار موضوعات ليست على الحدة التي يتصورها الباحثون, بل أن الأمر في بعض الحالات يصل إلى حدود افتعال موضوعات ليت مطروحة أصلاً. وان ما يجب أن يتوجه إليه البحث العلمي هو قضايا أخرى تتصل بالمعضلات الحقيقية لهذه المجتمعات, مثل قضايا الفقر والبيئة وأوضاع النساء والنهوض بالأرياف والأقاليم المهملة, فضلاً عن قضايا الشباب والنساء وهي قضايا يجري تجاهلها بقصد, والانصراف إلى ما يعد هامشياً أو غير جوهري. مثل هذا النقاش يُلفت الأنظار إلى الحقيقة المسكوت عنها وهي أن الحكومات العربية معنية بأن تُولي, عبر هيئاتها المعنية وعبر الجامعات والمعاهد العليا, البحث العلمي الأهمية التي يستحقها من خلال تخصيص ميزانيات مجزية له, لأنه ليس ترفاً وإنما هو يدخل في صلب ضرورات التنمية والنهوض بأوضاعنا العربية. ومثل هذا الاهتمام يتطلب بالضرورة مساحة من الحرية والتسامح وشفافية المعلومات والبيانات, واستقطاب الباحثين العرب الذين يتمتعون بالصدقية والحياد والنزاهة العلمية إلى هذه الهيئات المدعومة من الدولة, وان لم يتم ذلك فان مراكز الأبحاث الممولة من الخارج, مع ما يثيره وجودها من لغط, مرشحة للتزايد والتكاثر . غني عن التوضيح أن أي حديث عن التنمية في غياب الدراسات وقاعدة البيانات وبنوك المعلومات والأبحاث الميدانية لن يعدو كونه حديث هراء, أو أن «التنمية» التي يدور عنها الحديث تفتقد أهم شروطها وهو التخطيط المستند إلى الدراسة.
صحيفة الايام
8 فبراير 2009