حزب الله والقاهرة
حينما تسلم الرئيس محمد حسني مبارك مقاليد الحكم قبل 28 عاما في مصر وتحديدا في خريف 1981م غداة اغتيال سلفه الرئيس أنورالسادات فقد كان تسلمه السلطة كمرشح وحيد في استفتاء شعبي قد تم بموجب شرعيتين: الاولى شرعية رئيسية أساسية تتمثل في انه امتداد لشرعية نظام الحكم القائم على ثورة 23 يوليو 1952م التي قادها الرئيس الاسبق الراحل جمال عبدالناصر، والشرعية الثانية تتمثل في انه امتداد لعهد الرئيس السابق الراحل أنور السادات الذي وقع مع اسرائيل اتفاقيات الصلح المعروفة باتفاقيات كامب ديفيد عام 1979م. وقد كان الرئيس مبارك شريكا أساسيا في عهد حكم الرئيس السادات ونائبا له، وشارك في حرب اكتوبر 1973م التي عززت سلطة السادات وأكسبته شعبية جديدة.
ولئن كان الرئيس السادات قد تسلم مقاليد الحكم في خريف 1970م بعد الموت المفاجئ للرئيس عبدالناصر حيث كان نائبا أول لرئيس الجمهورية وجرى الاستفتاء الشعبي له على هذا الاساس قد استدار بزاوية 180 درجة عن مبادئ الثورة التي جاء للسلطة بمقتضى شرعيتها، فلم يكن بمقدور مبارك في ظل موازين وتوازن قوى محلية مختلفة في السلطة فضلا عن موازين قوى اقليمية ودولية ان يستدير بزاوية 180 درجة عن نهج السادات، وقد كان شريكه في الحكم ونائبا له. فخطوة كهذه تتطلب قناعات وارادة جديدة ليقوم بانقلاب جديد كامل على الطبقة السياسية الساداتية المتشكلة في الحكم وعلى المؤسسات السياسية القائمة، وعلى الاخص العسكرية. وما كان واردا اطلاقا في ذهنية وقناعات مبارك الاقدام على مغامرة من هذا القبيل شبيهة بالمغامرة التي أقدم عليها سلفه السادات في عام 1971م مستندا الى سلطاته الدستورية الواسعة، وذلك حينما طهر مؤسسات السلطة والاتحاد الاشتراكي من الرموز والقوى الناصرية التي أسماها «مراكز القوى«، واستدار يمينا نحو أمريكا ورفع سياسة «الانفتاح الاقتصادي« كعنوان للتراجع عن كل قرارات يوليو الاشتراكية، وصولا إلى إقامة صلح دائم مع العدو الاسرائيلي. على ان الرئيس مبارك يحسب له انه حاول قدر المستطاع ان يرد الاعتبار لشرعية ثورة يوليو وان يكون أمينا ولو رمزيا من ناحية الخطاب السياسي لكلتا الشرعيتين اللتين ورثهما: شرعية ثورة يوليو وشرعية العهد الساداتي الذي بموجبه آلت السلطة اليه. وعلى سبيل المثال فقد تم في عهد مبارك احياء تراث ثورة يوليو السياسي في عهد عبدالناصر، ومن ذلك اذاعة أغاني الثورة في المناسبات الوطنية التي ظلت مغيبة طوال حكم السادات واعادة طبع خطب عبدالناصر وقراراته ومشاريعه الكبيرة السياسية.. الخ، ونأى مبارك بذلك عن نفسه توجيه الاساءات غير المباشرة التي كان يوجهها السادات في خطبه الى عبدالناصر. والمشكلة ان العرب الذين يطالبون القيادة السياسية المصرية بأن تلعب دورا صداميا مع اسرائيل يغفلون أو يجهلون كل هذه الخلفيات والحقائق التاريخية والاشكالية التي جاء في ظل ظروفها الرئيس مبارك للحكم عام 1981م، وينسون كذلك ان العرب، أنظمة ومعارضات، قد سلموا مقدما بأهمية الدور المصري حتى في ظل التزام القاهرة بكامب ديفيد وذلك بعد عشر سنوات من فشل مقاطعتها ونقل مقر الجامعة العربية منها الى تونس. وبالتالي فهم ينسون أيضا ان الدور المصري يظل بالغ الأهمية ومطلوبا، ولا يمكن تجاوزه في كل الظروف ولاسيما عند أخطر المنعطفات التي تمر بها القضية الفلسطينية وقضايا العرب المصيرية الأخرى. ولعل خير شاهد على ذلك تسليم جميع الأطراف العربية الآن، شاء بعضها أم أبى، وتسليم كذلك كل الفصائل الفلسطينية وبضمنها «حماس«، بهذا الدور الذي لعبته مصر خلال العدوان على غزة ومازالت تلعبه بعد وقف العدوان. ورغم احترامي وتقديري لعطاءات وتضحيات حسن نصرالله زعيم حزب الله اللبناني الجهادية ودوره التاريخي في المقاومة اللبنانية وعدم تشكيكي في وطنيته وصدق نياته، فإن واحدا من أكبر أخطائه خلال العدوان الأخير هو لجوؤه في التعبير عن نقده واختلافه مع القيادة المصرية، فيما يتعلق بمواقفها خلال العدوان على غزة إلى الهجوم الخطابي المباشر المنفعل الحاد ضد القيادة المصرية على نحو ليس أشد من المعارضة الوطنية المصرية نفسها فحسب، بل على نحو لم تلجأ إليه البتة «حماس« نفسها ضحية العدوان وحليفة حزب الله، مما يعرض الاولى للحرج البالغ في هذه الظروف الدقيقة التي تقوم خلالها القاهرة بجهود الوساطة للمصالحة الوطنية الفلسطينية، فضلا عن جهودها لتثبيت تهدئة جديدة في غزة بأقل الخسائر السياسية الممكنة مع العدو الاسرائيلي. وإذا كانت «حماس« قد لاذت بالصمت حول هجوم السيد نصرالله اللاذع المتكرر ضد الحكم المصري، فلربما مما لم يخطر على بال السيد حسن نصرالله، بل الكثير من العرب، ان المصريين هم من أكثر الشعوب العربية حساسية، ان لم يكن أكثرهم، تجاه من ينصب نفسه من العرب ناطقا باسمهم ضد نظامهم، أو يزايد على وطنيتهم ويلقي عليهم دروسا قومية أو نضالية أو جهادية فيما ينبغي ان يفعلوه أو ما لا يفعلونه ضد سلطتهم. ومن هنا تكمن بالضبط ردة الفعل الغاضبة من قبل معظم أو كل القوى السياسية المصرية، وليست السلطة فقط، وذلك حينما حرض السيد نصرالله، ضمنيا، المؤسسة العسكرية ضد القيادة السياسية في مصر ابان العدوان الاسرائيلي الاخير على غزة. نعم يستطيع ان يفعل «السيد« ذلك داخل وطنه في مطلق الأحوال كما يحلو له تجاه خصومه من القوى السياسية الداخلية، بصرف النظر عن مدى صحة هذا النهج في مطلق الاحوال، لكن ما يجانبه الصواب لو اتبع هجومه في مطلق الاحوال ضد الحكومات والقيادات الرسمية العربية. ولعل واحدا من أكبر الاخطاء السياسية التي مازالت تقع فيها قيادة حزب الله، للأسف، ولا يبدو انها بصدد مراجعتها انه بالرغم مما تخوضه من صراع ازاء مشكلات داخلية عاصفة وفي منتهى الخطورة والدقة فإن ذلك لا يحول دون ان تخوض في ذات الوقت عدة معارك خارجية في آن واحد على عدة جبهات وفي جميع الاتجاهات، من دون ان تسمح لنفسها بأن تلتقط أنفاسها قليلا، ومن دون تربص بعواقب ذلك على مستقبل الحزب. ناهيك عن ان هذا الحزب له تمثيل في حكومة يفترض، لضمان مصالحها، ان يكون نهجها معتدلا متوازنا ومحايدا بين الحكومات والمحاور العربية المتضاربة. وبالتالي أما كان من الممكن في هذه الظروف ان يعبر الحزب عن خلافه مع القاهرة بصورة إعلامية أقل من الهجوم القيادي المباشر؟ ولئن دأبت القاهرة الرسمية في دفاعها عن نفسها منذ عهد السادات على أنها أكثر الدول العربية التي قدمت تضحيات هائلة من أجل القضية الفلسطينية، فإنه آن الأوان لمراجعة مثل هذا الرد، ليس لكي لا يبدو منة على الفلسطينيين فحسب، بل لأن مصر حينما خاضت كل حروبها ضد اسرائيل انما خاضتها أساسا ليس من أجل فلسطين فقط، بل دفاعا عن أمنها القومي حيث كانت اسرائيل على الدوام تهدد كل العرب، ودفاعا أيضا عن شرفها وكرامتها ودفاعا عن دورها الريادي المقيض لها ان تلعبه في الفضاء العربي في هذه المرحلة التاريخية المديدة من حياة الامة العربية.. وبالتالي فهذا قدرها الموضوعي الذي رسمته لها الجغرافية والتاريخ والثقافة العربية المشتركة.. ولا تستطيع بإرادة أي حاكم من حكامها التراجع عنه مهما طال الزمان.
صحيفة اخبار الخليج
5 فبراير 2009