لا يمكن لأي باحث سياسي في العالم متجرد ومتسلح بأدوات المنهجية العلمية الرصينة ان يلم بكل المعوقات والكوابح التي تحد من تطور الوعي الديمقراطي في البلدان العربية من دون ان يلم جيداً بدور ومنزلة القضية الفلسطينية في وجدان الشعوب العربية قاطبة، إذ ان هذه القضية ظلت ومازالت وستظل متشابكة موضوعيا مع القضايا المحلية القُطرية – بضم القاف – في كل الاقطار العربية.
وبسبب هذه المكانة التي تشغلها تحديداً القضية الفلسطينية فقد كانت على الدوام منذ هزيمة 1948م المعين الذي لا ينضب الذي يلجأ إليه عدد من الانظمة العربية الشمولية، وعلى الأخص القومية، لصرف أنظار شعوبها عن اخفاقاتها الداخلية وتبرير تغييب الحريات العامة والاصلاحات الدستورية والديمقراطية.
ولعل الكل يتذكر أن اشهر شعار رُفع بعد هزيمة 67 ردا على المطالبة بهذه الاستحقاقات هو شعار “لا صوت يعلو على صوت المعركة” في حين، كان احد الاسباب الرئيسية لهزيمة 1967م ليس فساد القيادات العسكرية فحسب، بل تغييب الديمقراطية عن نهج الحكم وتسييد الرأي الواحد وعبادة الفرد، وتبرير نهج القمع بنظرية المؤامرة الخارجية ومواجهة العدو الصهيوني الخارجي الذي ينبغي التحضير لشن المعركة عليه لإزالة آثار العدوان.
وعلى مدى 40 عاماً ونيفاً ومع كل عدوان جديد كبير تشنه اسرائيل على الفلسطينيين أو على احدى الدول العربية، يدخل عدد من الانظمة والقيادات السياسية في سباق جديد محموم من ألعاب الجمباز السياسي او السيرك الاعلامي السياسي ليثبت كل منها أنها الأكثر حرصاً على القضية الفلسطينية، وتستغل هذه القضية لتوظيفها في حملاتها الاعلامية ضد خصومها من الانظمة العربية فتتهمها بـ “الخيانة” أو التقصير.. إلخ.
وفي العدوان الاخير على غزة وجد عدد من الانظمة الشمولية ضالتها في هذا العدوان لاستغلال عواطف ومشاعر شعوبها المتعاطفة مع الشعب الفلسطيني بتحشيده في المسيرات اليومية المنددة باسرائيل والامبريالية الامريكية وبتوجيه اصابع الاتهام لهما بدورهما في اثارة النزاعات الداخلية وتحريض هذه الشعوب على كراهية تلك الأنظمة القومية، وبالهجوم على القيادة المصرية وتوجيه المسيرات الى السفارات المصرية وهو أكبر خطأ تقع فيه هذه المسيرات لانه يسيء لمصر ليس نظاماً فحسب بل شعباً أيضاً.
وهكذا جرى اتهام الصهيونية وأمريكا بدورهما في خلق مشكلة “دارفور”، وهكذا جرى اتهامهما بدورهما في اثارة القلاقل وتحريض المنشقين من “اتباعهما” في سوريا للمطالبة بالديمقراطية والحريات العامة في حين ان سوريا تواجه مخاطر العدو الصهيوني، بل مازالت تستعد لخوض معركة تحرير الجولان. وهكذا ايضاً اضحت القضية الفلسطينية على رأس أولويات السياسة الايرانية حتى لو كان الشعب الايراني برمته غارقاً في بحر من الازمات الاقتصادية والمعيشية والسياسية، ولم تعد هذه القضية تشغل باله أو تطغى على همومه ومشاكله الداخلية المتفاقمة، اذا ما استثنينا المسيرات الموجهة رسميا في الغالب.
ولما كانت فنون “الجمبار السياسي” لا تكلف شيئاً فإنه من السهل جدا ممارسة الديماغوجية وتضليل الجماهير لتظهر بعض الانظمة بأنها اكثر التزاماً ووطنية وقومية تجاه القضية الفلسطينية وان تومئ او تتهم غيرها من غريماتها من الانظمة العربية بأنها ليست اقل وطنية واقل قومية منها فحسب، بل تمارس التواطؤ والتخاذل مع الاعداء على غزة، وسبق ان ذكرنا هنا في احدى الوقفات اثناء العدوان أن كل الانظمة العربية متساوية، تقريباً، وان بدرجات متفاوتة نسبيا جدا، في العجز وفي التخاذل عن نصرة الشعب الفلسطيني في غزة. لكن بعض أنظمة الشعارات الثورية والكلامية اختارت أن تشن أعنف انتقاداتها ضد القاهرة وكأنها هي معفاة تماماً من أي مسؤولية او تقصير لما حدث في غزة.
لا أحد بطبيعة الحال هنا ينفي او يبرر ثمة تقصيرات سياسية واخطاء غير مبررة ارتكبتها القاهرة خلال العدوان، وان ثمة ادواراً كانت معولة عليها لأدائها، وبخاصة فيما يتعلق بمعبر رفح اكبر من مستويات الادوار التي قامت بها، ولسنا هنا بصدد الدفاع عن الحكومة او القيادة المصريتين فهما اقدر على الدفاع عن مواقفهما الرسمية، لكن اعتقد أنه من الظلم بمكان تصوير موقف وسياسات القاهرة خلال العدوان بأنها اسوأ المواقف والسياسات العربية خلال العدوان، في حين ان مصر رسميا وشعبيا، وبالرغم من قيود كامب ديفيد المفروضة عليها، لعبت ادواراً مهمة خلال العدوان لايقافه، ما لم تلعبه البتة انظمة ما يسمى بـ “الممانعة” أو الثورية المتشددة، ومن دون التقليل من دور الضغوط الشعبية العربية والعالمية وقبل ذلك صمود ومقاومة أهل غزة، فإنه من الظلم بمكان اغفال الدور المصري أيا كان حجم هذا الدور في وقف المذبحة، وفي الدور الحالي الذي تؤديه للمصالحة الفلسطينية، وحسب معلوماتي الموثقة فإن الدور الشعبي المصري على مختلف المستويات لنجدة اشقائنا في غزة خلال العدوان كان اكبر الادوار العربية، وهذا بشهادة شهود عيان عرب وبحرينيين دخلوا غزة أثناء الحصار.
وصفوة القول: حتى في أسوأ الفروض تقديراً لم يكن الدور الرسمي المصري هو الاسوأ مقارنة بأنظمة لا تجيد سوى المزايدة وفن بيع الكلام المجاني وتستغل القضية الفلسطينية لصرف انظار شعوبها عن ازماتها الداخلية.
صحيفة اخبار الخليج
4 فبراير 2009