المنشور

أرض السواد: بنية عامة

تقوم رواية أرض السواد على حوادث تاريخية حقيقية مثل مدن الملح، ويسودها الأسلوب الروائي التسجيلي نفسه، مما يجعل بنيتها الفنية مماثلة لبنية الرواية الأخرى.
فالأجزاء الثلاثة تعكس السيادة الاجتماعية نفسها للخاصة الارستقراطية، والدور الثانوي للعامة، عبر هذا التقسيم الكلاسيكي بين القوتين المتفارقتين.
فيغدو النشاط لداود باشا وبعض ضباطه الكبار وموظفيه المهمين، وللقنصل البريطاني المقيم في بغداد وزوجته، فهذه الفئة هي التي تحرك التاريخ وتصنع الأحداث، في حين أن الشعب يتلقى الأحداث بشكل سلبي غير مشارك فيها، ولا يملك سوى التعليقات المطولة عليها.
ولهذا فإن مسار الأحداث يبدأ وينتهي عند تلك الطبقة. فداود باشا الرجل الجورجي الذي كان من جنود الدولة العثمانية يرتقي في جهاز الدولة الحاكم في بغداد وينفصل عنه ويعتزل في أحد المقامات الدينية ثم يقود تمرداً على الحاكم من شمال العراق، ثم يسيطر على الحكم، ويقود حركة نهضوية في هذا القسم الأوسط والجنوبي من العراق. والنهضة المعنية هنا هي إنعاش التجارة ومقاومة الفيضانات وغير ذلك من ترميم البنية الاقتصادية نفسها وهي الحدود الاجتماعية للإقطاع في المنطقة على مر التاريخ الوسيط.
هرب داود (بعد أن وقع سعيد باشا في غرام شاب اسمه حمادي العلوجي)، (أصبح حمادي الآمر الناهي) ومن بغداد توجه داود للشمال (حيث يجتمع أعداء سعيد ومن هناك كاتب اسطنبول، واتصل بخالد أفندي، فلقي الدعم والتأييد)، ص 23، ج.1
يغدو العرض التسجيلي لهذه الأحداث المنجزة هو غاية الروي، وهو منجز لم يعد بالإمكان التحوير نفيه، كما أن الأسلوب التسجيلي في هذا الشق الفني يقوم على استعادته وعرضه عبر وثائقية التاريخ ومواده الحقيقية، في حين ان الجزء الشعبي التعليقي يقوم على التخيلِ ضمن ذلك المسار السائد الارستقراطي.
وهي البنية المتضادة التي لاحظناها في رواية(مدن الملح).
هيمنة الفوتغرافيا وثانوية التخيل الشعبي، أي تداخل الحقيقي واللاحقيقي، يجري كلاهما في تلك البنية الفنية الانعكاسية، التوثيقية للحقبة، وفيما أن التاريخَ درسٌ وتركيزٌ في السببيات، فإن الرواية هي تجسيدٌ تشخيصي، مشوقٌ في بعض الفصول ومملٌ في فصول أخرى، نظراً لهذا الهيكل الضخم، فالجزء الأول يحوي 539 صفحة، والجزء الثاني 548 صفحة، والجزء الثالث 307 صفحات. بسبب روح التسجيلية الطاغية، وضم كتابات من العصر تؤدي إلى الاكثار من الحواشي والتوسعات التي لا قيمة لها في صلب الرواية، كما هي الفصول العديدة عن زوجة القنصل واهتمامها الطاغي بجمع الآثار، وهي فصول مقتطفة من مذكرات القنصل البريطاني، الذي يغدو هو الشخصية المصارعة لدواد باشا ومحاولته النهضوية الاستقلالية.
فتغدو لدينا أنماط شخصية ليست منمذجة فنياً، فهي تـُقدم بشكلها التاريخي، العام، حسب الأحداث المرتبة، ولهذا فإن الحدثَ التاريخي الجزئي هو الذي يسير ويسود، وتتكشفُ لنا الشخصياتُ عبر هذه الحوادث، فليس لها أعماق دفينة مركبة، ومتخيلات، فهي شكلٌ آخر للحدث الجزئي، فداود باشا نعرفه أولاً كقائد فاتح لبغداد، ثم كموجه لقائده العسكري الآغا عليوي يدعوه للتخلص من سعيد باشا الذي تحصن في قلعة بغداد، وحين يغدو الحدث هو حركة الآغا للقضاء على سعيد باشا، تصير بؤرة الحدث عند الآغا ومشاعره وحركته المكانية المتجهة للقلعة، ويجري هنا تشويق درامي عبر دخول الآغا للقلعة حتى يصل إلى مخدع سعيد باشا، متجاوزاً الحرس الكثيرين بحيلة ابتكرها، وحين يقف على رأس الباشا يقوم بقطعه!
فتجري حركة الشخوص – الأحداث متابعة للتطور التاريخي، ويتم التركيز في المشاعر والأفكار وأشياء المكان المرتبطة بتلك اللحظة، وحين يتم الانتقال للحظة سياسية تاريخية أخرى فإن البؤرة تتركز في الشخصية الفاعلة لها، وتغدو بذات الطريقة السابقة، ويغدو سرد الراوي – المؤلف مستمراً في عرضه الهادئ المتوجه لعمومية اللحظة، دون خيال أو منولوجات أو اختلاف بين أسلوب شخصية وآخر، إلا في حالات الشخصيات العامية التي تـُسرد بالعامية المحكية.
وفي حين ان الشخصيات الارستقراطية تنشئ التاريخ فإن الشخصيات تظل في المقهى بين حوار وشتائم وسخريات وتعليقات سياسية مختلفة.
ومن هنا فإن الشخصيات المركزية تتقطع، فداود باشا نجدهُ في فقرةٍ سردية أولى بكلِ تاريخهِ السياسي قبل الحكم وحين الوصول إليه، وهي لا تتعدى بضعة سطور، ورغم حضوره المكثف في كل الرواية فلا نعرفُ جذورَهُ العائلية والقومية إلا في الجزء الثالث حين يحن إلى أمه في جورجيا والتي انتقدتهُ في رسالةٍ لها بأنهُ تخلى عن دينهِ المسيحي واعتنقَ الإسلام، وليس في هذه العودة الماضوية أي تحريك لشخصيته التاريخية ليغدو شخصية فنية.
ومن هنا يغدو مظهرُهُ الروائي مظهرَ شخصيةٍ تاريخيةٍ غيرِ مبطـنةٍ بحراكِ الشخصية الفنية، فهي تابعة للحظتها السياسية، ولا يبدو منها سوى أقوالها السياسية، وحراكها المكاني، الملتصق بتلك اللحظة، وهكذا فإننا نتابع الآغا عليوي ويبدو لنا كشخصية عامية عسكرية ساذجة ودموية، ولكن مجرى الحوادث المتصاعد يوضح ان الآغا له خلفية سياسية لم نعرفها إلا في الجزء الثالث بعد ألف صفحة من السرد، ولكن هذه الخلفية هي خلفية سياسية تقدم دفعة واحدة كذلك، حين تصاعد الخلاف مع القنصل البريطاني ووصل إلى حراك واسع، فنعرف بأن الآغا هو حليف أو عميل لذلك القنصل، رغم حضور الآغا الطويل في المعارك ضد العرب البدو، وتكوينه جماعة من الضباط مناوئة لداود باشا، وفي ترحيله للشمال واستمرار مؤامراته على داود.
في الحراك السردي مع الآغا نلمح تغيراً وحيوية في السرد فأمامنا شخصية متقلبة متوترة، تمضي للمعارك الطاحنة، ولكن السارد لا يعتبر هذه المواقع مكاناً لتجلية شخصية الآغا، فهي ليست سوى لحظة شخوصية – حدثية، تظهر حينما يأتي دورها في الحدث التاريخي وتزاح حين تزاح منه.
كما ان الساردَ لا يهتم بالقبائل العربية المتمردة، إلا في تفصيل علاقاتها بداود والحكم، لكن ليس مثل القنصل البريطاني ريتش، الذي يتم التوسع فيه بشكل مضاد لتقنية الرواية العام، ففي حين تحجم حضورُ شخصياتٍ أخرى ولم تعط خلفية أو نمواً فإن هذه الشخصية تجاوزت كل أولئك، والسبب يعود لكون السارد – المؤلف استعان بمذكرات ريتش هذا ووظفها في سردٍ مطول لا علاقة له بالحبكة التاريخية، مثلما قلنا حول دور زوجته في جمع الآثار العراقية وأخذها. فريتش يقوم بجولة مطولة في شمال العراق ويلتقي الأكراد ويتم تسجيل كل هذه التفصيلات التي لا علاقة بها بالمحور الروائي التسجيلي، والساردُ يذكرُ: (أما حين غادر ريتش القصر فقد وجد جواداً جميلاً عليه عدة مزركشة جميلة مهيأ له كهدية، (فلم أستطع إلا القبول) كما من دون باختصار في يومياته)، ص 163، ج3.
 
صحيفة اخبار الخليج
4 فبراير 2009