يروي الكاتب أنيس منصور انه حدث أن دعاهُ في وقت ما في ستينيات القرن الماضي أحمد بهاء الدين هو وكامل زهيري لمرافقة الشاعر الروسي الشهير يفغيني يفتوشينكو الذي كان يزور مصر يومها بدعوةٍ رسمية في رحلةٍ إلى مدينة الأقصر. ويفتوشينكو واحد من أهم الشعراء الروس المعاصرين الذين تخطى صيتهم نطاق روسيا والجمهوريات السوفياتية السابقة, فبلغ العالم كله, نظراً لموهبته المتألقة, وللإضافة التي قدمها للحركة الشعرية المعاصرة. وفي ليلة قمرية خرج الثلاثة : منصور وبهاء الدين وزهيري إلى رحلة على ظهر زورق فوق سطح النيل . كان الشاعر الروسي مستلقياً في الزورق مأخوذاً بالقمر والليل والنيل يتأمل فيما يرى, وفجأة دونما سابق حديث, سأل الضيف مضيفيه: « ما هي القضية التي يتجادل حولها المفكرون والمثقفون في مصر, فيتفقون أو يختلفون؟ ما الذي يشغلكم؟ يقول أنيس منصور: إن السؤال فاجأ جميع من هم في الزورق, واجتهد كل منهم في تقديم إجابة. كامل زهيري تحدث عن الأدب والجدل حول الواقعية كمدرسة, من هم معها ومن هم ضدها. منصور نفسه تحدث عن الوجودية بوصفها رداً للاعتبار للفرد في مواجهة ما فعلته فيه الشمولية, وأحمد بهاء الدين تحدث في أمر ثالث, وهكذا. فما كان من الضيف إلا أن روى لزملائه المصريين حكاية عن فنان طُلب منه أن يرسم «بورتريه» لرجلٍ مهم, ولكن في وجه هذا الرجل المهم كان ثمة عاهة, فإن أظهرها في الرسم قد يؤخذ عليه ذلك, فاحتال بأن رسم وجه الرجل من زاوية نظر جانبية, أو ما يعرف ب»البروفايل». واصل الشاعر الضيف: ما ذكرتموه من أجوبة ليس أكثر من «بروفيلات» لواقعكم. انكم تتفادون النظر إلى الواقع كما هو تماماً, كما فعل الفنان الذي تحاشى رسم البورتريه ولجأ إلى «البروفايل». يضيف أنيس منصور معقباً: أن السؤال الذي طرحه الشاعر الروسي, وما قاله من تعقيب شغلاه طويلاً, وسعى للإجابة عليه في كتبه التي ألفها دون أن يُوفق. ولست اتفق مع أنيس منصور لا في الفكر ولا في السلوك السياسي, لكني أظنه مُصيباً فيما ذهب إليه من أن الفكر العربي منشغل بالجدل في قضايا قد تكون مهمة, لكنها لا تشكل محور أو جوهر ما يدور في الواقع من إشكاليات. إن هذا الفكر يقع غالباً في أحد محذورين, فإما أن ينشغل بتفصيل معين من تفاصيل هذا الواقع, قد يكون مهماً, لكنه ليس الأهم, وفي غمرة انشغاله بأمر الشجرة ينسى الغابة التي تتكون من آلاف الأشجار, وإما أنه يلجأ إلى التجريد الذي يفصل حيثيات هذا الواقع. ومن طبيعة الفكر أن يكون مجرداً, لأنه يشتغل على القوانين العامة لحركة المجتمع, لكن هذه القوانين حين تبحث مفصولة أو مبتوتةً عن الواقع الذي تنشط فيه, تصبح رسماً أشبه بـ»البروفايل», لا رسماً لـ»البورتريه» على نحو ما ذهب إليه الشاعر يفغيني يفتوشينكو الذي حدثنا عنه أنيس منصور.
صحيفة الايام
4 فبراير 2009