في القرن التاسع عشر, في عام 1848 كتب تشارلز ديكنز يقول: نسمع أحياناً كلاماً عن دعوى التعويض عن الأضرار ضد الطبيب غير الكفء الذي شوه أحد الأعضاء بدلاً من شفائه .ولكن ماذا يقال في مئات آلاف العقول التي شوهتها إلى الأبد الحماقات الحقيرة التي ادعت تكوينها؟ في ظني إن أحداً لم يسبق له أن عقد مثل هذه المقارنة وطرح هذا السؤال بكل هذه الجرأة كما فعل مؤلف «قصة مدينتين» و«ديفيد كوبرفيلد» تشارلز ديكنز الروائي الانجليزي الكبير. وهو في هذه المقولة يُحرضنا على التفكير في مسالة على قدر كبير من الخطورة تتصل بمسؤولية أولئك الذين ينتجون الجهل. الشائع أن الجاهل هو الإنسان الذي لم يتعلم في مدرسة أو جامعة ولم يتلق خبرات كافية في الحياة, ولكن هذا الفهم يبدو سطحياً وعاجزاً عن الوفاء بشروط تعريف الجهل, فالجهل, هو الآخر يُعلم, كما العلم تماماً, ومثلما يوجد معلمون يُلقِنون أو يعلمون الناس العلم والثقافة , فان هناك معلمين على قدر كافٍ من الذكاء والفطنة واللؤم, مهمتهم تعليم الناس الجهل. إنتاج الجهل وتسويقه وتعميمه وتحويله إلى سياق حياتي سائد, لا يضيره في بعض الأحوال, أن يتزيا بزي المعرفة نفسها, التي هي جوهراً وشكلاً نقيض الجهل. ومن شروط الجاهل, نتاج هذا النوع من التعليم أو التلقين, هو انه لا يعي جهله, ليس فقط لأنه لا يعترف به, وإنما أساساً لأنه لا يدركه ولا يعيه, لا يحسب نفسه جاهلاً ويظن أن جهله معرفة. ويتيح العصر الحديث بما يقدمه من وسائط جبارة خارقة فرصاً واسعة لإشاعة وتعميم ما درج على تسميته بالثقافة الاستهلاكية المحمولة على إمكانات غير مسبوقة, التي تحمل في ثناياها, هذا النوع من الجهل الذي يتزيا بزي المعرفة. يندرج هذا الجهل في إطار ما يمكن أن نطلق عليه «تزييف الوعي» في الظاهر, فان وسائط الثقافة الاستهلاكية الرائجة اليوم تقدم نوعاً من الوعي, لكنها في حقيقة الأمر تُقدم وعياً مزيفاً. وإذا كان إنتاج الجهل مهنة أو وظيفة قديمة لم ينتجها العصر الراهن, فمنذ الحضارات القديمة كانت هناك حاجة للقوي في أن يظل الضعيف جاهلاً, ولكي يظل القوي قوياً والضعيف ضعيفاً, كان ضرورياً إنتاج الجهل وإعادة إنتاجه مراراً. بل أن أفلاطون تحدث في حينه عن الجهل المزدوج لكن العصر الحديث أنتج الوسائط الفعالة القادرة ليس فقط على إنتاج هذا الجهل وإنما أساسا القادرة على تعميمه وتسويقه بصورة جذابة, آسرة, ساحرة, تماماً كما تسوق السلع الأخرى من خلال «فاترينات» العرض أو من خلال الإعلان الذي يتوسل أكثر الأساليب فتنة ومتعا وجذبا. وفي الوقت الذي تكابد فيه أشكال الوعي الحقيقي المشقات كي تجد لنفسها كوة تطل منها فان الفضاء ينفتح كاملا لذلك النوع من الوعي الزائف الذي يدخل البيوت بدون استئذان, لأننا لا نملك أن نقاومَ مقدار جاذبيته, فيأسرنا بمكره لأنه يظل واعياً لما يفعل, فيما ننساق نحن إلى هاوية الجهل بمقدار لا ننكره من إرادتنا الحرة…
صحيفة الايام
3 فبراير 2009