يهبط كبار ضيوف المنتدى الاقتصادي العالمي على منتجع دافوس بالطائرات الحوامة كالعادة. جاؤوا بالسيارات أو حتى بالباصات. لا لشيء، إنما لا شيء يمكن رؤيته في أجواء الألب، حيث كان الضباب مخيما على المنطقة حسب الصحافيين. ذلك يشبه إلى حد كبير مزاج القادمين للمشاركة. فالضباب مخيم أيضا في أجواء الاقتصاد العالمي.
لقد حضر 2500 مشارك، بينهم أكثر من 40 رئيس دولة وحكومة، و60 وزيرا و30 رئيس منظمة عالمية و 1400 رئيس شركة ‘ليستوضحوا’ الرؤية من دافوس في منتدى هذا العام الذي عقد تحت عنوان ‘البحث عن مخرج من الأزمة’. أشار كلاوس إلى أن سكان العالم يعرفون بأن قادتهم خذلوهم حيث وصل الوضع إلى ما هو عليه. وعلى القادة أن يعيدوا تقييم الواقع، أن يعالجوا الوضع بتحويل منتجع دافوس إلى منتجع لعلاج وتعافي الاقتصاد العالمي.
حسب التقاليد تعطى الفرصة في جلسة الافتتاح لشخص واحد فقط من كبار الضيوف كي يتحدث. وعادة ما تضبط كلمته إيقاع المناقشات اللاحقة وتصوغ موضوعاتها الأساسية، وتشكل فرصة سانحة لكي يقدم الخطيب أفكاره وبلاده. هذه المرة، التي تتميز عن كل مرة، كان الفارس هو رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين. ومنذ أيام المنتدى وحتى الآن ظل يتردد في الصحافة الاقتصادية العالمية ما عرف ‘بوصفة بوتين’ للخروج من الأزمة.
في ما طرح في هذا المنتدى من تشخيص وحلول للأزمة الكثير مما يجب على بلداننا الخليجية أن تتنبه له. وإذا كانت كل بلدان العالم المعولم على اختلاف أنظمتها السياسية والاقتصادية قد تضررت جراء الأزمة، لكنها تمتلك بعض أدوات الخروج منها فإن بلداننا ظلت مجرد متلق سلبي لآثارها. قالوا في دافوس إن الأزمة حدثت نتيجة التنظيم المتدني النوعية للنظام المالي ما جعل المخاطر الكبرى تصبح غير خاضعة للسيطرة. وإن من أهم أسبابها هي الشهية المنتفخة وغير المبررة للشركات تجاه الطلب المتصاعد باستمرار على العمليات المالية التي فاق حجمها أضعاف القيم الفعلية للأصول، والخلل الكبير بين الطلب على القروض ومصادر تمويلها. وأن التوقعات المبالغ فيها انعكست ليس على السلوك في مجال الأعمال فحسب، بل وفي الاستهلاك أيضا. ومن اختلالات الاقتصاد العالمي التوزيع غير المتناسب للثروات المتولدة سواء بين سكان البلد الواحد أو بين مختلف بلدان ومناطق العالم. أما الخلل الأساسي فهو الكامن في نظام النمو الاقتصادي ذاته، حيث إن مركزا واحدا ظل بلا حدود وبلا رقابة يُصْدر النقد ويستهلك الخيرات (أميركا)، ومركزا آخر ينتج بضائع رخيصة ويكدس نقودا من إصدار دول أخرى (الصين).
غير أن مجرد تكرار التشخيص لن يجد في تجاوز الأزمة. فالاقتصادي الروسي د. إيغور بانارين شخصها وتنبأ قبل عقد من السنوات بانهيار النظام المالي الأميركي بسبب الدولار غير المدعوم بشيء وتنامي الدين الخارجي الذي لم يكن موجودا عام 1980 ليصل إلى 2 ترليونات دولار العام ,1980 وهاهو الآن بين مستويي 11 – 13 ترليون دولار بعد حزم ‘الإنقاذ’ الجمهورية والديمقراطية. وهاهو العالم يتخبط في أزمة فاقت في سرعة تطورها أزمة الكساد العظيم في عشرينات – ثلاثينات القرن الماضي. تتوجه الأنظار الآن أكثر نحو الإجراءات الضرورية التي قد تؤمن مخرجا للاقتصاد العالمي وكل إقليم وبلد في العالم من طوق الأزمة. في مقدمة هذه الإجراءات هو معالجة مشكلة الديون والأصول الميئوس منها بشطبها، مهما كان ذلك مؤلما. وبذلك يوضع خط فاصل مع الماضي بدلا من إعادة ضخ الأموال العامة للمؤسسات الخاسرة من جديد. فالمضي في هذا الطريق يضع الأساس من جديد للتطور على طريق أزمة قادمة. وبعد أن بينت التجربة أن الدولار لم يتمكن من لعب دوره بجدارة كعملة عالمية، فقد أصبح من الضروري أن تعمد مناطق العالم المختلفة، إلى بناء أنظمتها الإقليمية المالية والنقدية الخاصة. والدول الخليجية معنية بهذا المخرج بشكل حيوي، وعلى ثلاثة أصعدة: تسريع عملية قيام الوحدة النقدية الخليجية، تخليص العملة الموحدة من ارتباطها بمثبت الدولار، ولا يغرنكم ارتفاعه المؤقت هذه الأيام. وثالثا، وهو الأهم، إنهاء اعتماد تسعير صادرات خامات النفط والغاز بالدولار الأميركي فقط. وبناء على ذلك تصبح بلداننا ذات مصلحة حيوية أكثر في مطالبة بلدان العالم الأخرى المصْدرة للعملات الرئيسية بأن تكون أكثر إفصاحا وشفافية في سياساتها النقدية والمالية قبل أن تدرج هذه العملات بين سلة احتياطاتنا وتسعير النفط. وبمناسبة تسعير النفط فقد تمت المطالبة في دافوس بإصلاح نظام تسعير مواد الطاقة الحالي حيث تسمح المضاربات بهبوط أو إقلاع الأسعار في ظرف ساعة. وهذه مهمة خليجية مفترضة. كما تطرقوا إلى ظاهرة النقود التصورية التي ساهمت كثيرا في نفخ الاقتصاد العالمي بكثير من الوهم. وبلدان الخليج هي من أكثر من ابتلي بهذه الظاهرة. وقد آن الأوان للبحث عن والتعامل مع العملات التي تعكس واقعا اقتصاديا فعليا، وبالتالي تنطوي على قيمة معبرا عنها بالاقتصاد المادي.
وهم آخر لا تزال تجري وراءه بلدان الخليج، وهو الركض وراء المؤشرات والتصنيفات غير العلمية، والدخيلة حقا على علم الاقتصاد، وعدم اللجوء إليها أو الأخذ بها حتى عندما بائعي الأوهام من المكاتب الكبرى المتخصصة في المحاسبة والتدقيق والتحاليل التي ساهمت في حدوث الأزمة.
تحدثوا في دافوس عن أنه حتى في بلدان الغرب يجب أن يزول وهم أن زيادة الاستثمار في المجمع الصناعي العسكري وتوسيع برامج التسلح تساعد على الخروج من الأزمة الراهنة. إنها وإن أعطت في المرحلة الأولى نتائج إيجابية وساهمت في خلق أماكن عمل إضافية، إلا أنها على المدى البعيد تسحب من الاقتصاد موارد ضخمة وضرورية لتطويره. أما بالنسبة لبلداننا، حيث لا يتعلق الأمر في مجال التسلح والبرامج العسكرية باستثمارات أو خلق فرص عمل، بل بهدر الموارد، فقد آن الأوان لوقفة جريئة أمام إغراء ‘السلاح زينة الرجال’ الذي طالما وقعنا وأوقعونا فيه.
الوقت 2 فبراير 2009