المنشور

(أرضُ السواد)، وأساسيات (مدن الملح)

يقوم المعمار الروائي الكبير في مدن (الملح) على التسجيلية السياسية، وهو المعمار الذي سوف يستمر في رواية أرض السواد، وهو معمارٌ بسيط يعتمد على تسجيل حقبة من الزمن السياسي، من خلال سرد الراوي المتواري ومن خلال حشود من الشخصيات ومن بعض الرواة المباشرين والمستترين.
ويتوجه روي الراوي إلى متابعة الحراك السياسي بعفويته فالرواية هي سجلٌ إخباري واسعُ النطاق، لكنه مجسدٌ عبر الشخصيات، ولهذا فإن أجزاء الرواية وتطور الشخصيات وعرض الأحداث سوف يتتبع الحركة العفوية التلقائية للتاريخ المقروء.
فالتاريخ هو المتحكم في العرض الروائي، فقد جاءت أجزاءُ الرواية بالتسلسل التالي: التيه، الأخدود، تقاسيم الليل والنهار، المنبت، بادية الظلمات، وهو تتابعٌ يعبرُ عن حراك الاكتشافات النفطية وكيف حركتْ الحياة في مدن معينة ساحلية، مع ما جرى في هذه الاكتشافات من تدفق للثروة والبضائع والعمال والخبراء الأمريكيين ، وكيف ظهرت الاصطدامات العمالية مع إدارة الشركة وأي رموز عمالية مناضلة طلعت بين قوى العمل ثم ذابت ثم كيف صمت هذا كله إلا من خلال وميض رمزي.
والأجزاء التالية لا تعالج هذه المدن النفطية الصاعدة، بل تتركها، لكون الحركة التاريخية انتقلت لمدنٍ أخرى، إلى مدن صحراوية وقرى منسية بين الفلوات، لتصعد وتصير مدناً كبيرة، فتقوم أجزاءُ الرواية بعد(التيه) بمعالجتها بشكل ليس جزئياً أو منقطعاً بل بشكل كلي، فلم تعد الحركة الاجتماعية في مدن النفط إلا حركة معدومة في ظل هذا البناء الروائي التسجيلي، الذي يرصدُ ما هو بارز تاريخياً ومسيطر سياسياً.
وإذا كانت الروايات والتسجيلات العيانية للمؤلف المهندس الذي عاصر هذا الزمن هي إحدى مصادر مثل هذا البحث التاريخي – الروائي، فإن الكتابات الاجتماعية والمسحية لهذه المدن من الرحالة والاقتصاديين والصحفيين، لعبت القسم الآخر الذي عبأ هذا القسم بالمادة الإخبارية والتسجيلية.
ولهذا فإن القسم الثاني التالي، بعد (التيه) سوف يعتمد كثيراً على مذكرات وكتابات الطبيب السوري الذي وفد على المدن الصحراوية بعد أن تشبعت بمال النفط الكثيف، وهذا الطبيب الذي صعد من مهنة الطب حتى المكانة السياسية العليا والقرابة مع السلاطين، وهو ما تشير إليه إحدى الدارسات بقولها:
(وتبرز شخصية الدكتور صبحي المحملجي بروزاً مخيفاً طاغياً في (الأخدود) و(المنبت)، حتى إنها ما ان تظهر حتى تستحوذ على اهتمام الساردِ وتصبحُ محوراً لكل الأحداث والعلائق والمواقف. وحتى عندما تطل جزئياً في الثلث الأخيرمن (التيه) و(بادية الظلمات) فإنها لا تفتأ تلفتُ الأنظار، (تجريبية عبدالرحمن منيف في مدن الملح، نورة آل سعد، المجلس الوطني للثقافة والفنون والتراث بقطر، ص 144).
ولكن القضية ليست حضوراً شخصياً فقط بل أيضاً كانت هذه الشخصية مصدراً روائياً تسجيلياً، فعبر شهاداتها وتواريخ عائلتها وكتاباتهم تمت رؤية ما جرى بعد ذلك في المدن الصحراوية الصاعدة بفضل الثروة النفطية.
كذلك ساهمت كتاباتُ مستشرقين متعربين لعبوا دوراً في هذه التجربة السياسية كذلك. فهذه كلها مواد صنعت الحيثيات الروائية، فالروائي التسجيلي هنا لا يعتمد على عنصر التخييل، بل على عناصر النقل الوثائقي وبكل ما في هذه العمليات النقلية من تصويرية للأحداث التي جرت بالفعل، وبالتالي ما يتبعها من تجسيم للشخوص التاريخية وحواراتها العامية البدوية أو العامية السورية، وما في وسطها من صراعات وانقلابات وحروب.
وهذا التاريخي الجاهز تكملهُ بالمتخيل وهو المتوجهُ لتجسيد ردود فعل الناس تجاه تلك الحركة التاريخية الكبيرة التي تمضي بعيداً عن مشاركتهم.
وإذا كان هذا المتخيلُ يستندُ أيضاً إلى بعض العناصر الحقيقية من شخوص انتقادية للحياة، فإنه عموماً يقوم على تخيل شخصيات كثيرة من العامة، لا تلعب أدواراً في الحياة إلا عبر التعليقات، وهذا كذلك يرجع للبنائية التسجيلية.
فالحقيقي المجلوبُ من الوثائق والمحاضر والرسائل يغدو هو الهيكلُ الأساسي للرواية، فهو بناءٌ انعكاسي للتطور التاريخي للبلد، الذي سجلَ نشاط الطبقة الحاكمة، عبر تلك الوثائق المنشورة وغير المنشورة، وقد تم تسجيلهُ من خلال أفرادٍ من فئاتٍ وسطى عملتْ مع تلك الطبقة أو تقاطعتْ معها بأشكالٍ مختلفة. مثل الدكتور المحملجي وهاملتون الرحالة والسياسي البريطاني وغيرهما، وهي كلها شخصياتٌ حقيقية بأسماء مستعارة.
وهكذا فإن الروي التسجيلي يحاولُ أن يغطي نشاط الطبقة الحاكمة والطبقة المحكومة كذلك، وإذا كانت الأولى تملأ المسرحَ فإن الأخرى تملكُ الخلفية والمشهديات العابرة.
في كثافة التسجيلي وسيطرته على المادة الروائية الكبيرة يسيطر الواقع الفوقي للحياة، واقع نشاط الطبقة الحاكمة، ومن هنا فإن شخصياتها الكثيرة وأعمالها تسيطر على أغلبية الرواية، مما يعد سجلاً لها، وسواء أكان ذلك نقدياً وساخراً وتعريضياً أم تسجيلاً موضوعياً، لكن الراوي هو الذي يستدعي تلك الشخصيات السياسية ويعرض تواريخها المختلفة.
هكذا نجد اجزاء الرواية، يسود فيها حضور السلاطين موتاً أو حكماً، مثل (الأخدود) حيث يتوفى السلطان خريبط ويتولى الحكم السلطان خزعل، وفي(المنبت) نمضي مع السلطان المخلوع خزعل، وفي (بادية الظلمات) يختتم الجزء البعيد بوفاة السلطان خريبط ليبدأ الجزء التالي بعهد السلطان فنر. ورغم تداخل الأزمنة وعودة الماضي فإن هناك نمواً زمنياً متصاعداً، لأن الطابع التسجيلي هو طابع زمني متنام، لكن الرجوع للوراء يتم على صعيد الوعي. في نشاط السلاطين إذاً الأغلبية الكبرى للأحداث الروائية، وعبر نشاطهم تتكون دوائر التأثير من المقربين منهم حتى العامة.
هذا البناء الروائي يعطي رصداً ولكنه لا يعطي قراءة كلية لمسار الحياة، أي لا يقرأ تضاداتها العامة ومساراتها، ويعطي شخصيات حقيقية وليست واقعية، ويسجل أحداثاً حقيقية، وليست منمذجة، فهي رواية يسود فيها السرد الإخباري، وهي تاريخ مُرمز بالأسماء فقط، وإذا حذفنا الأسماء الرمزية تلك نجدها تاريخاً اجتماعياً قصصياً حقيقياً في أغلب فصوله. وهو أمرٌ يشير إلى جدة الرواية في منطقة الخليج والجزيرة العربية، وكون التسجيلية مرحلة مبكرة في البناء الروائي، ولهذا نجد الحشود الكثيرة جداً من الشخوص الوامضة ومن الأحداث الكثيرة ومن التفاصيل الطويلة التي لا لزوم لها، فالروائي يسجلُ زمنَهُ بطريقةٍ تصويرية واسعة ولا ينمذجها شخوصاً وأحداثاً وبنى.

صحيفة اخبار الخليج
1 فبراير 2009