نعم إسرائيل في مأزق استراتيجي حقيقي. كيف؟
لقد بنت إسرائيل وأسست إستراتيجية وجودها واستمراره على قاعدة تفوقها العسكري الكاسح والساحق على كافة البلدان العربية مجتمعة. وهي في سبيل ذلك عملت بشتى السبل للتسلح بكافة أنواع الأسلحة المتاحة في السوق ولدى الحلفاء أو غير المتاحة، ومنها السلاح النووي، وهي ربما تكون قد نجحت في توصيل هذه الرسالة إلى البلدان العربية عبر سلسلة من الحروب العدوانية التي شنتها وخاضتها ضد الجيوش العربية والتي لم تكن تستغرق منها وقتاً طويلاً قبل اختراق جبهاتها وقضم جزء من أراضيها، حتى ظن أو اقتنع النظام الرسمي العربي بلا جدوى خيار المواجهة والمقاومة ضد إسرائيل.
فكان أن استخدمت إسرائيل سلاح الردع المعنوي هذا بمكر الثعلب المختال، وراحت تبتز الأطراف العربية وتدفعها، بمؤازرة ولؤم واشنطن طبعًا، لتقديم التنازلات إليها، الواحد تلو الآخر، تسليماً بوجودها بل وحتى بما اغتصبته وأضافته إلى كيانها الاستعماري من أراضٍ ومياه.
ثم تشاء الأقدار أن يدفع إسرائيل زهوهاً وغرورها بجبروتها وقوة جيشها للتورط في اختبار حقيقي ليس ضد جيش عربي نظامي هذه المرة وإنما ضد مقاومة شعبية مسلحة تسليحاً جيداً ومدربةً تدريباً احترافياً على حرب العصابات. فكان عدوان يوليو/تموز 2006 ضد لبنان الذي استمر لأكثر من شهر استخدمت خلاله إسرائيل كافة أنواع أسلحتها الجوية والبحرية والبرية، المشروعة والمحظورة (مثل القنابل العنقودية)، أول اختبار حقيقي للجيش الإسرائيلي في الميدان بعد أن اعتاد خوض الحروب الخاطفة وكسبها. فإذا به وجهاً لوجه أمام مقاومة أقعدته عن التقدم على الأرض واحتلال ولو قرية جنوبية واحدة، فجاء الاعتراف الصريح بعد ذلك بالفشل من جانب لجنة فينوغراد التي شكلتها إسرائيل للتحقيق في إخفاقات الحرب ، تقريراً للحقيقة الصادمة على الأرض والتي لم يعد مجدياً نكرانها.
وبقيت هذه الحقيقة المرة تلاحق قادة إسرائيل وجنرالات جيشها الذين أريق ماء وجههم إلى أن اعتقدوا مجدداً أن الفرصة أصبحت مواتية لهم لغسل عار ذلكم الإخفاق الذريع، فخُيّل لهم أن مهمة الإجهاز على ميليشيات حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية الأخرى في غزة أسهل بكثير من مواجهة عناصر حزب الله، وأنها مهمة في متناول اليد خصوصاً وأن حصار الثمانية عشر شهراً المحكم الذي فرضته إسرائيل ضد القطاع وسكانه المليون ونصف المليون نسمة، قد هدَّ من عزيمتهم وقدرتهم على الصمود.
وكانت المفاجأة أن مسار العملية الحربية التي خاضوها هذه المرة أيضاً قد اتخذت ذات السيناريو السابق وانتهت إلى ذات النتيجة، وذلك على الرغم من مضاعفتهم لجرعات سياسة الأرض المحروقة بما لا يقاس بكل مثيلاتها في لبنان أو حتى الحرب الأمريكية العدوانية في فيتنام، فلم تنجح ثلاثة أسابيع من القصف الجوي والبري والبحري الوحشي الذي لا يضاهيه سوى القصف الرهيب الذي تعرضت له المدن الألمانية من جانب طائرات الحلفاء عشية انتهاء الحرب العالمية الثانية والقصف الأمريكي المرعب بقاذفات بي 52 العملاقة للمدن الفيتنامية في النصف الأول من سبعينيات القرن الماضي – والتي لم تنجح في كسر شوكة المقاومة ووقف عمليات إطلاق الصواريخ من غزة المحاصرة وتحرير الجندي الإسرائيلي الأسير لدى حماس (شاليط).
ولو كانت هذه العملية الحربية الجديدة التي جردها الجيش الإسرائيلي ضد قطاع غزة والتي أسماها قادتها بعملية ‘الرصاص المسكوب’ (الاسم مستعار من أحد النصوص الدينية اليهودية بما يكشف الأصل الأيديولوجي العنصري المؤسس على التمييز العرقي بين البشر الذي قامت عليه إسرائيل ) – لو كانت تسير حسبما اعتقد مدبروها ومنفذوها لما كانت استغرقت منهم كل ذلك الوقت ولما اضطروا في نهاية المطاف لإيقافها عشية تنصيب الرئيس الأمريكي الجديد باراك أوباما منعاً للإحراج والهروب من حملات الإدانة والضغط الشعبي الهائل الذي تعرضت له إسرائيل في جميع أنحاء العالم.
والمفارقة اللافتة هنا بصورة في غاية الدلالة هي أن هذه هي المرة الثالثة – إذا ما استثنينا حرب تحرير الجنوب اللبناني التي انتهت في عام 2000 بانسحاب ذليل للقوات الإسرائيلية – التي يفشل فيها الجيش الإسرائيلي في إحراز نصر في مواجهة مفتوحة مع فصائل المقاومة الشعبية العربية. فلقد فشلت إسرائيل في عام 1982 في كسر شوكة المقاومة الوطنية الفلسطينية واللبنانية واحتلال بيروت رغم تنفيذ الطيران الحربي الإسرائيلي أكثر من 25 ألف غارة على مدى 88 يوماً متواصلة على المدينة أنزلت خلالها عشرات آلاف الأطنان من القنابل والصواريخ، بخلاف القصف المدفعي والبحري، حتى حق القول بأن المدافعين عن بيروت قد أحالوها إلى ستالينغراد عربية.
بهذا المعنى فإن مغامرة حكام إسرائيل المتوحشين الأخيرة في غزة تكون قد جددت وأعادت تأكيد حقيقة فشلهم في التمكن من المقاومة الشعبية العربية. ليس هذا وحسب، بل أن إسرائيل قد عرَّضت، ربما لأول مرة في مواجهاتها مع العرب وتحديداً قواهم الشعبية المقاومة، صورتها إلى الاهتزاز أمام الرأي العام العالمي، وهي التي ظلت تنفق مئات الملايين من الدولارات وتجند كل طاقاتها وعناصرها وموالاتها على مدى خمسين عاماً، من أجل إظهارها في صورة الضحية المعتدى عليها من قبل العرب ‘المتوحشين’. فجاءت مشاهد الدمار الرهيبة وصور جثامين الأطفال والنساء الثكالى المسجاة في المستشفيات أو المنتشلة (بفتح الشين) من تحت الأنقاض ومشاهد الرعب الأخرى التي خلفتها آلة القتل والدمار الإسرائيلية، لتكشف وتثبت للعالم أجمع حقيقة إسرائيل كدولة تحكمها عصابة فاشية متعطشة أبداً للدماء.
أيضاً ولأول مرة تصبح إسرائيل في موقف الدفاع على خلفية التداعي الدولي الأهلي غير المسبوق للعمل على تقديم مجرمي الحرب الصهاينة وعلى رأسهم أولمرت وباراك وليفني وبيريز وكبار ضباط وجنود الاحتلال المسؤولين عن الجرائم الدامغة التي ارتكبوها بحق سكان غزة. حيث استنفرت إسرائيل كل طاقاتها السياسية والقانونية وترسانتها الدعائية التلفيقية للحيلولة دون تكلل هذه الجهود الدولية الرامية لتقديم المجرمين للعدالة، بالنجاح.
وهكذا فإن إسرائيل تجد نفسها الآن أمام خلل خطير يعتري إستراتيجيتها الأمنية القائمة على انتصارها المضمون والسهل في أية حرب أو معركة عسكرية تخوضها ضد دولة عربية أو أكثر في أي وقت وفي أي زمان.
ولنا أن نتصور حال الطغمة الحاكمة في إسرائيل لو كان تيسر لسكان غزة الحد الأدنى من الدعم العربي اللوجستي فقط؟ قطعاً كان سيجن جنونهم.
الوطن 31 يناير 2009