بعد 22 يوما من القصف الهمجي والغارات اليومية الجوية المتواصلة على الاهداف المدنية في قطاع غزة والتي تطاول بيوت وعمارات ومخيمات وملاجئ السكان الآمنين، بما في ذلك المدارس والمستشفيات والمساجد وسائر مراكز ومؤسسات الخدمات المدنية والاجتماعية والانسانية.. أعلنت اسرائيل على لسان رئيس وزرائها إيهود أولمرت وقف عملياتها العدوانية من جانب واحد في سابقة عدها أغلب المراقبين والمحللين السياسيين أنها الأولى من نوعها في تاريخ الصراع العربي – الاسرائيلي منذ 60 عاما.
وما إن تم سريان وقع عمليات الذبح والابادة من قبل العدو الاسرائيلي حتى انطلقت على الفور المواقف العربية المتجادلة حول من هو الطرف الفلسطيني أو العربي الذي اجبر اسرائيل في اليوم الثاني والعشرين من هجومها الوحشي على غزة على وقف اطلاق النار. ثمة موقفان عربيان لعلهما أبرز المواقف العربية في هذا الشأن:
الأول: هو موقف حركة حماس والتي اعتبرت اعلان قوات الاحتلال الاسرائيلي وقف العدوان هو بمثابة هزيمة ساحقة لإسرائيل ونصر مؤزر حققته “حماس” عسكريا بدحرها قوات الاحتلال وافشال عدوانها.
الثاني: هو موقف القاهرة التي اعتبرت ان قرار اسرائيل وقف اطلاق النار هو بمثابة رضوخ من قبل اسرائيل لطلب الرئيس المصري حسني مبارك لها بذلك.
ومن المعروف ان الاخير وجه اليها هذا الطلب قبل ساعات معدودة من اعلان أولمرت وقف اطلاق النار استجابة، حسب ادعائه، لطلب الرئيس المصري.
فأين هي الحقيقة الفعلية التي تقف وراء انصياع اسرائيل لقبول وقف عدوانها على غزة في مساء اليوم الثاني والعشرين من بدء العدوان؟
في واقع الحال، ومن دون التقليل نسبيا بدور كلا الموقفين “الحمساوي” والمصري المتقدم ذكرهما، إلا أنه من الصعوبة بمكان القول ان وقف اطلاق النار الذي اجبرت اسرائيل على قبوله من جانب واحد تم بناء على تعرضها لهزيمة عسكرية ماحقة على ايدي رجال المقاومة الممثلة في كتائب عزالدين القسام (الجناح العسكري لحركة حماس)، أو لمجرد استجابتها للطلب المصري اليها في السويعات الأخيرة بوقف اطلاق النار.
فإسرائيل التي اعتادت على امتداد 60 عاما ونيفا ضرب قرارات الأمم المتحدة الممثلة للشرعية الدولية بعرض الحائط من الصعوبة ان يقتنع المرء بانصياعها لطلب دولة عربية مهما كان وزنها لمجرد انها تقيم معها علاقات دبلوماسية وانما أرادت من اتخاذ هذا الطلب المتفق عليه وسيلة لحفظ ماء وجهها بعد ان “طنشت” قرار الأمم المتحدة على مدى نحو اسبوع.
وبعيدا ايضا عن العواطف فمن الصعوبة القول إن اسرائيل قد تعرضت لهزيمة عسكرية ساحقة ماحقة الحقت بها اشد الاضرار في الأرواح والعتاد على ايدي رجال المقاومة مما اجبرها على وقف اطلاق النار على شاكلة انصياع الولايات المتحدة لقبول وقف اطلاق النار في حربها على فيتنام، ثم اجبارها على الانسحاب من هناك، وعلى شاكلة غيرها من الهزائم العسكرية التي منيت بها الاحتلالات الكولونيالية في تاريخنا المعاصر على ايدي حركات التحرر المسلحة.
ذلك أنه ليس ثمة وجه للمقارنة بين امكانيات العدو الهائلة في الاسلحة البالغة التطور والتقدم تكنولوجيا في القتل والتدمير، بما في ذلك الاسلحة المحرمة دوليا كقنابل الفوسفور وغيرها، وبين امكانيات اسلحة رجال المقاومة المتواضعة التي يكاد يقتصر اهمها واكثرها تقدما على بضع عشرات من الصواريخ من الكاتيوشا أو “الآر. بي. جي” التي تطلق عشوائيا على الجانب الاسرائيلي ولا تكاد تذكر اضرارها في البشر والعتاد والخسائر المدنية الاخرى.
والحال ثمة عوامل عديدة ذاتية وموضوعية متشابكة هي التي اجبرت اسرائيل على وقف عدوانها على قطاع غزة نستطيع ان نختصرها في: صمود المدينة ونجاح رجال المقاومة في التمترس والتخفي عن اسرائيل من الوصول اليهم ومواقعهم جميعهم من مختلف الفصائل، والضغوط الرسمية الدولية على اسرائيل وعلى الاخص الامم المتحدة، ومنظمات حقوق الانسان الدولية، وغيرها من منظمات الضغط الانسانية العالمية وكل شرفاء العالم، والاهم من كل ذلك المسيرات الاحتجاجية المليونية اليومية في عواصم العالم الكبرى، وبضمنها اسطنبول، ناهيك عن المدن العربية، وتمرغ سمعة اسرائيل الاخلاقية في الوحل أمام العالم، ووصولها الى نتيجة أو “قناعة” بعد 3 أسابيع متصلة بعبثية حملتها الوحشية في القدرة على تركيع المقاومة وسكان غزة، البالغ عددهم زهاء مليون ونصف مليون.. كل ذلك حملها في النهاية على التسليم بقبول وقف اطلاق النار.
ويمكن القول ان المسيرات الاحتجاجية المليونية العالمية هي على رأس كل تلك العوامل المتقدم ذكرها، ذلك ان حكام تل أبيب الفاشيين الصهاينة انتابهم في النهاية شعور بالقلق المكتوم على تعرض فزاعة الضمير الأوروبي “الهولوكوست”، المحرقة اليهودية، للاهتزاز بعدما شاهد العالم بأم عينه ما أوغلت فيه اسرائيل من وحشية في سلسلة طويلة من الجرائم المتصلة التي تتضاءل “الهولوكوست” امامها في وحشيتها بافتراض صحتها الكاملة.
صحيفة اخبار الخليج
25 يناير 2009