الفترة الانتقالية للولاية الرئاسية الأمريكية الواقعة بين فوز مرشح الرئاسة في الانتخابات وبين تسلمه فعلياً مقاليد الحكم في البيت الأبيض بعد حلفه اليمين في مراسم تتويج وطنية احتفالية، وهي فترة ليست بالقصيرة إذ تمتد من 4 نوفمبر لغاية العشرين من شهر يناير – هذه الفترة هي في الواقع فترة تصريف أعمال بالنسبة للرئيس المنتهية ولايته يفترض أن لا يُقدِم خلالها على اتخاذ قرارات، سياسية أو اقتصادية، مصيرية وتوريثها خليفته، وذلك مراعاة لأصول وقواعد الحكم الرشيد، حتى وإن كان لازال يتمتع بكامل صلاحياته الدستورية. وهي أيضاً فترة تقييم وجرد حساب كاملة وليست جزئية كما هو الحال بالنسبة لفترة المائة يوم الأولى التي يقضيها الرئيس الجديد في إدارة دفة البيت الأبيض والتي جرت التقاليد في الحياة السياسية الأمريكية أن يتم تقييم أداء الرئيس خلالها ومدى نجاعته وتوفيقه في التعامل مع القضايا المطروحة أمامه. فما بالك بفترة ولاية تمتد لدورتين انتخابيتين أي ثمان سنوات كما هو الحال بالنسبة للرئيس بوش، ناهيك عما يميز فترة ولاية هذا الرئيس من أحداث جسام حافلة من ثقل حروبه الممتدة على ما أسماه بالإرهاب وأزمة الكساد العظيم التي ورَّط فيها اقتصاد بلاده والاقتصاد العالمي ترتيباً. كل الرؤساء الذين تعاقبوا على الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية على امتداد القرن العشرين، تصرفوا كأباطرة روما الذين ما يكاد الواحد منهم ينتهي من معركة حربية حتى يزج بجيش الإمبراطورية في معركة حربية جديدة. فلقد كانوا قادة حربيين بامتياز، هذا بخلاف تورطهم في ما قُدِّر الكشف عنه من فضائح ومؤامرات. ويستطيع المرء بكل سهولة تعداد الحروب التي أشعلها أولئك الرؤساء، الراحلون منهم والأحياء، وسرد وقائع الفضائح التي تيسر كشف النقاب عن تورطهم فيها. ولكن هذا ليس موضوعنا على أية حال. إلا أن سجل الرئيس جورج دبليو بوش المنتهية ولايته تواً، في هذا المضمار، قد فاق وقائع سجلات نظرائه الرؤساء الأمريكيين الذين سبقوه في تسطير هذه المآثر. وهذا ما يفسر تكالب أجهزة الميديا العالمية على ‘القبض’ على هذه السانحة التاريخية لتسليط الأضواء على التركة التي خلفها هذا الرئيس وأركان إدارته. فأفردت محطة سي إن إن التلفزيونية الأخبارية الأمريكية مساحة لتلقي رأي الجمهور في أنحاء العالم حول ما إذا كان الرئيس بوش هو أسوأ رئيس في تاريخ الولايات المتحدة. كذلك فعلت الشيء نفسه الـ بي.بي.سي. وغيرها من أجهزة الميديا الغربية. ومن سوء طالع الرئيس بوش أن تخبئ له الأقدار المفاجأة التي لم تدر بخلده مطلقاً، ونعني بذلك حادثة قذفه بالحذاء من قبل الصحفي العراقي منتظر الزيدي أثناء المؤتمر الصحفي الذي عقده في بغداد برفقة رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي. وكأن الزيدي أراد – وإن لم يقصد – أن يجعل ختام ذلكم السجل الحافل لفخامة الرئيس الأمريكي، ‘مسكاً’! فلعل الحادثة برمزيتها تختزل المآل الذي سينتهي إليه حكم التاريخ على سليل آل بوش الذين لازالوا يطمعون في العودة للبيت الأبيض. لهذا كان متوقعاً أن يهرع الرئيس بوش مسرعاً في محاولة لتحميل، أو على الأقل لتلطيف، صورته التي تلطخت في خضم التغطيات الإعلامية المتكالبة على نجمه ونجم إدارته الغاربين وإعمال المشرط تشريحاً وتقييماً له ولإدارته، فعقد لهذا الغرض مؤتمراً صحافياً وداعياً مع الصحافيين في البيت الأبيض يوم الاثنين 12 يناير 2009 ، أتبعه بخطاب وداعي ألقاه يوم الخامس عشر من نفس الشهر. في المناسبتين بذل الرئيس بوش محاولات أخيرة لعكس الصورة التي شكلتها ممارساته على أرض الواقع في أذهان الرأي العام الأمريكي والعالمي. فكرر بعناد ما دأب على وصفه بإنجازات إدارته وهي: – تحويل أفغانستان إلى ديمقراطية فتية بعد أن كانت في قبضة حركة طالبان التي كانت تمنع النساء من الذهاب إلى المدارس. – إقامة الديمقراطية في العراق بعد إطاحة النظام الديكتاتوري هناك. – حماية بلاده من الهجمات الإرهابية بعد تلك التي تعرضت لها في الحادي عشر من سبتمبر 2001 . – مكافحة مرض نقص المناعة المكتسبة في أفريقيا.
طبعاً يستطيع بوش أن يقول ما يشاء عن نفسه وعن إدارته وأن يعطي لنفسه ولإدارته درجة ‘+A’ في تقييم حصاد السنوات الثمان التي قضَّاها في البيت الأبيض. فهذا لن يجدي شيئاً ولن يغير من الحقيقة التي باتت شاخصة أمام القاصي والداني ‘بفضل’ أفعال بوش لا أقواله. ثم إن من المضحك أن ينبري المسئولون لتقييم أنفسهم وتقييم أدائهم. فهذا لا يستقيم قطعاً مع شروط التقييم الموضوعية، ناهيك عن قواعد المنطق وأبنيته الإمبريقية. فالتقييم يفترض أن يتم من قبل الآخرين الذين هم في وضع يؤهلهم لإجراء مثل هذا التقييم والحكم على مجمل مؤشرات الأداء المتصلة به سواء السلبية منها أو الإيجابية. فالرئيس بوش يستطيع أن يدعي وينسب لنفسه الفضل في إقامة نظام ديمقراطي فتي في أفغانستان، حتى وإن كان هذا الإدعاء أجوفاً يُذَكِّر بزهو الزعماء السوفييت وتفاخرهم بإقامة نظام اشتراكي في بلد معدم مثل أثيوبيا أو اليمن الجنوبي أو بنين أو أفغانستان نفسها في أعقاب الغزو السوفييتي لأفغانستان عام 1979.
وبالمناسبة فإن نظام الحكم الذي أقامه الأمريكيون في أفغانستان ويفاخرون به، هو نظام لا يشرِّف أربابه أنفسهم الذين لم تصدر بحقهم شهادة دولية واحدة تستأهل المفاخرة، فجل تقارير الهيئات والمنظمات الدولية توصم نظام كابول بالفساد الضارب بأطنابه في شتى مناحي مؤسساته. ناهيك عن أن النظام لا يسيطر سوى على العاصمة كابول. وحتى هذه السيطرة مقيَّضة بفضل قوات حلف شمال الأطلسي.
أما العراق فإن بوش وصحبه نجحوا فعلاً في إقامة أخطر نموذج لدولة التشطير الطائفي والعرقي والشعبوي في منطقة الشرق الأوسط. فيا له من نموذج ديمقراطي، وهذا ما هو متوقع على أية حال من إدارة أمريكية كرست نفسها لإعادة استحضار أدوات الصراع القروسطية من جنس الحرب الصليبية التي أومأ إليها بفصاحة يحسد عليها الرئيس المنتهية ولايته نفسه. أما في شأن الأزمة المالية التي تسببت وتخبطت فيها إدارته والتي سرعان ما انتقلت إلى الإقتصاد الحقيقي لتنقل عدواها سريعاً إلى الاقتصادات العالمية جمعاء، فإن من المضحك أن يتحدث بوش عن مأثرة تصديه لتصدعاتها وتداعياتها عوضاً عن تحمل مسؤولية حدوثها بشجاعة والإقرار بسوء وفساد الإدارة اللذين أديا إلى وقعها الكارثي الذي يفترض أن لا يمر دون كشف المسؤولين عنها ومحاسبتهم وتقديمهم للعدالة. وفي شأن السؤال عما إذا كان جورج بوش الابن هو الأسوأ في تاريخ الرئاسيات الأمريكية، نكتفي بنقل ما نقلته صحيفة ‘ايزفيستيا’ الروسية قبل أيام عن بعض الدوائر الأمريكية القريبة من البيت الأبيض، وهو أن الرئيس المنتخب باراك أوباما عمد في الأيام الثلاثة الأخيرة من ولاية الرئيس بوش للتهرب من الرد على مكالمات الرئيس بوش المنتهية ولايته، بعد أن سأم من نصائحه بشأن إدارة بعض ملفات السياسة الخارجية الأمريكية. وجاء فيما نقلته الصحيفة عن تلك الدوائر أن الرئيس السابق جورج بوش قد عاد لمعاقرة الخمرة بسبب حالة من الاكتئاب ألمت به فجأة.
الوطن 23 يناير 2009