أربع قمم عربية تم عقدها خلال ثلاثة أسابيع ونيف من تواصل المذابح الوحشية اليومية المروعة بحق أهالي غزة على أيدي النازيين الاسرائيليين من قوات الاحتلال لكن جميع تلك القمم الاربع عجزت عن الارتقاء الى الحد الادنى من قراراتها لتكون في مستوى الحدث الجلل البالغ الخطورة وغير المسبوق تاريخيا في خطورته والمتمثل في المجازر التي ارتكبتها اسرائيل في غزة، فجميع قراراتها هي تحصيل حاصل متوقع سقفه مقدما ولا يرقى الى خطورة الحدث وبضمنها على وجه الخصوص القمة الطارئة غير المكتملة النصاب في الدوحة.
ومع ان القمة العربية الاولى، ألا هي قمة مجلس التعاون الدورية الاعتيادية التي عقدت في مسقط جاءت بعد يومين أو ثلاثة فقط من بدء المذابح الاسرائيلية، الا انه ما كان بمقدورها أبدا ان تبت في حدث خطير طارئ بحجم الهجوم الوحشي الاسرائيلي على غزة وتقرر ما تقرره ازاءها من دون ان يكون هذا البت في اطار عمل عربي مشترك اكبر يتمثل تحديدا في مؤسسة القمة العربية. ولذا جاءت الغالبية العظمى من قراراتها روتينية اعتيادية معدة سلفا منذ ما قبل العدوان، باستثناء اضافة فقرة عن غزة يؤكد من خلالها المجلس الاعلى “قلقه”، و”استياءه”، من العدوان و”ادانته”، وتحميل اسرائيل المسئولية “الكبرى” عنه، و”مطالبة” اسرائيل بوقف “التنكيل” بالشعب الفلسطيني، ومطالبة المجتمع الدولي بالتحرك لوقف المجازر الاسرائيلية.
واذا كان هذا هو حال الحصاد الهزيل من القمة الخليجية الاعتيادية التي شاءت الاقدار ان يأتي ميعادها بعد ثلاثة أيام فقط من بدء العدوان، فإن القمم الثلاث التي جاءت بعد هذه القمة لم تكن بأفضل حال، إلا نسبيا جدا، في حصادها الهزيل هي الاخرى. ولئن كان يشفع لهزالة حصاد القمة الخليجية انها جاءت في بدايات المذابح، فماذا يشفع للقمم الثلاث التي جاءت بعدما بلغ سيل دماء الغزاويين الزبى من شلالات الدماء التي فجرتها اسرائيل من لحوم الغزاويين؟
فأولى تلك القمم الثلاث كانت القمة الخليجية الطارئة التي عقدت بناء على طلب الرياض، وحبس العرب أنفاسهم حولها ثم اتضح وفق بيانها الختامي أنها لم تتمخض سوى عن اتفاق أقطابها على أن يستعرضوا القضية الفلسطينية، وعلى الاخص “مأساة غزة” في قمة الكويت اللاحقة بدلا من قمة الدوحة الطارئة غير المكتملة النصاب التي عقدت في اليوم التالي.
أما ثاني هذه القمم الثلاث (قمة الدوحة)، والتي جاءت في اليوم التالي والخاصة بغزة، فرغم الاصرار على عقدها، بغياب مصر والسعودية ومعظم دول مجلس التعاون، فإن حصادها جاء أشبه بمقولة “تمخض الجبل فولد فأرا”، فهي لم تخرج سوى بـ “توصيات” غير ملزمة لكل الدول العربية، وذلك لعدم اكتمال نصابها. وأكثر من ذلك فإن قراراتها لم تكن بذلك الحزم والقوة في التصدي لوقف المذابح وردع الجزارين على الفور في غزة الذبيحة، على الاقل بما يرقى والضجة الكبيرة التي أثيرت حول انعقادها، حيث أقام عرّابوها الدنيا ولم يقعدوها بسببها، حتى ليخال للمرء بسبب تلك الزوبعة وكأنها قمة ليست لوقف مذابح غزة فحسب، بل قمة تحرير فلسطين من النهر الى البحر، فمن دخلها (القمة) فهو آمن وأشرف الناس وأكثرهم وطنية وقومية وإيمانا وتألما لمذابح غزة.. ومن تخلف عنها فهو مغضوب عليه، أو في أحسن الاحوال نعتا، من العرب المتملصين من نجدة اشقائهم في غزة.
فإذا ما استثنينا قراراتها العادية المتفق عليها عربيا سلفا والتي جرى التوافق عليها من حيث الجوهر في قمة الكويت الاقتصادية، كالمطالبة بوقف فوري للعدوان وانسحاب الاحتلال، وانهاء الحصار، وفتح المعابر، وتأسيس صندوق لإعادة الاعمار، فان أقصى ما ذهبت اليه تلك القمة العصماء غير المكتملة النصاب لم يكن سوى “تعليق مبادرة السلام العربية”، ووقف كل أشكال التطبيع.
والحال فإن كلتا هاتين التوصيتين بحاجة الى رؤية واقعية شجاعة مع النفس، بعيدا عن سقف الأمنيات المستحيلة وذلك بالنظر لما آل اليه العرب سلفا من انحدار في سقف الممانعة خلال ثلاثة عقود جرى خلالها، انخراط ثلاث دول عربية في اتفاقيات تطبيعية شاملة مع الدولة العبرية وبسكوت ورضا كل الحاضرين في قمة الدوحة.
فمبادرة السلام العربية لم تقبلها اسرائيل لكي يتم سحبها، فهي حجة عليها أمام العالم ولن تتضرر بسحبها، بل لربما سعدت كثيرا بمثل هذا القرار لما تشكله المبادرة العربية من ضغوط معنوية عليها. أما وقف التطبيع فلا يعني سوى احراج الدول العربية الثلاث المقيدة أمريكيا ودوليا بنصوص معاهدات التطبيع مع اسرائيل. ومن ثم أما كان الاجدى ألا تسكت دول قمة الدوحة من الاصل على اعادة مصر للجامعة العربية عام 89؟ وألا تسكت بعدئذ على الدولتين الاخريين (الاردن وموريتانيا) اللتين سارتا على دربها؟
ومادام الحال هو كذلك فلا غرابة إذا ما جاء حصاد قمة الكويت هزيلا هو الآخر، ولاسيما انها انعقدت بُعيد توقف المذابح التي جرت خلالها جولات عاصفة من الصراعات حول القمم التي عقدت من أجلها، وحيث خفف توقف المذابح الضغط المعنوي الكبير على أقطاب هذه القمة الكويتية الاخيرة ليكون سقفها “متواضعا” و”معتدلا”.
وربما كان أهم وأقصى ما توصلت اليه من اثارة تلفزيونية هي المصالحات التي عقدت بين عدد من أقطابها، وهو مشهد ممل لطالما سئمت الشعوب العربية من اجتراره منذ نكبة 1948 لدى وصول خلافات زعاماتها الى الذروة، بالتزامن مع ذروة جديدة لجرائم عدوهم الصهيوني المتكررة، فهل كان يتعين على الشعب الفلسطيني ان يدفع كل مرة هذه الشلالات من دمائه ليقتنع الاقطاب العرب بأهمية المصالحات مقدما في مواجهة “عدوهم” المشترك المفترض؟!
صحيفة اخبار الخليج
21 يناير 2009